ثقافة و فنون غسان مفاضلة يكتب عن : ضياء العزاوي.. عصفٌ عابرٌ للحدود والفصول by admin 28 يونيو، 2023 written by admin 28 يونيو، 2023 125 “انفتاح العزاوي على أفق ثقافي متنوّع ومنفتح على العصر أتاح له انتشارًا عالميًا بعد منفاه الاختياري خارج العراق قبل نحو خمسة عقود” ضفة ثالثة \ غسان مفاضلة مع ضياء العزاوي، ربما من دون غيره، لا تستطيع إخفاء معالم الحيرة والدهشة وهي ترتسم كلّ مرةٍ، مع جديد منجزه، فتسأل: كيف في مقدور فنان أن يشكّل، منفردًا، ظاهرةً فنيةً قائمةً في ذاتها، ولا تُماثل سواها؟!. وإنها لظاهرة، تلك التي غطت بظلالها أفق أكثر من تجربةٍ، وأكثر من مرحلة على مدار نحو ستة عقود. ظاهرةٌ شكّلت بمحطاتها ودروبها التي عبرها العزّاوي (1939 ـ بغداد) بخطى الرائي المستكشف لأحوال المرئي وتحولاته، واحدةً من العلامات الفارقة في التشكيل العربي المعاصر. وليس معرضه الأخير “تخيّلات متحقّقة”، الذي يحتضنه غاليري “كريم” في عمّان، سوى إطلالة جانبية على الثراء الراشح من نسيج “الظاهرة العزّاويّة” بتقصيّاتها واشتباكاتها العابرة للحدود والأجيال. سياق تراكمي ‘طريق جانبية وعلى الرغم من الخصوصية التي يحوزها المعرض الذي يتوّزع على 28 عملًا خزفيًا متنوعًا، منها ستة أعمال جدارية ونحتية، بدءًا من المادة المستخدمة في تنفيذ أعماله، بوصفه أول معرض سيراميك متكامل للفنان، مرورًا بالنزعة التجريديّة لأعمال المعرض بتمثيلاتها وإحالاتها الرمزيةّ الضافية، ووقوفًا عند عنوان المعرض الناظم “التصوّري” لتلك الأعمال، بما يحمله من تأويلات تتخطى ما هو معطى ومتحقّق في الأعمال ذاتها؛ على الرغم من ذلك كلّه، لا يمكننا النظر إلى أعمال المعرض والتعامل معها في معزل عن السياق التراكمي للمنجز الثري والمتنوّع الذي حقّقه العزّاوي طوال مسيرته الفنيّة، انطلاقًا من معرضه الأول في عام 1965 في غاليري الواسطي ببغداد، وصولًا إلى معرضه “رسم الشعر” الذي أنجزه قبل ثلاثة أعوام، وما يزال يُعرض حاليًا في “متحف أشموليان للفن والأركيولوجيا” في أكسفورد البريطانية، وانتهاء بمعرضه الراهن “خيالات متحقّقة”، وما بينهما من معارضٍ ومشاركاتٍ وحضورٍ دائبٍ للفنان، قلّ نظيره، في الفعالياّت الفنيّة العربيّة والعالميّة. “نافذة مكسورة” انطلاقًا من ذلك السياق، بقسماته ومحمولاته الحضاريّة والثقافيّة، وبما حازه من رموزٍ وأشكالٍ وإشاراتٍ تفرّد بها التراث النحتي لبلاد ما بين النهرين عن غيره من فنون العالم القديم، ظلّ العزّاوي الذي اختار منفاه “اللندني” في عام 1976، بسبب عدم توافقه مع النظام العراقي آنذاك، وما يزال في منفاه حتى الآن، مسكونًا بإعادة إنتاج إرثه الحضاري بروافع جماليّة ٍمعاصرةٍ ومتجاوزة ٍلنطاق الجغرافيا وتنميطات التعبير. لا يختار العزّواي الذي بدأت مسيرته الفنيّة في عام 1964 مباشرةً بعد دراسته الآثار والفنون الجميلة في جامعة بغداد، عناوين معارضه جزافًا. فهي، وإن شابها بعض التباسٍ، أو تناقضٍ للوهلة الأولى، كما هي الحال مع عنوان معرضه الراهن، إلّا أنها تشكّل، إجمالًا، مقاربةً تصوّريّةً تتيح الاقتراب من أعماله ومعاينتها بما هي كائنة عليه، بموضوعاتها وتقنياتها وصياغاتها المتنوّعة. بناءً عليه، لا يبدو عنوان “تخيّلات متحقّقة” عنوانًا حقيقيًا للمعرض، وهذا اجتهادٌ له ما يسوّغه. إنّه مجازٌ يراوغ الحقيقة، ولا أقول يخفيها. وهو مجازٌ يؤكّده سياق اشتباك الفنان مع إرثه، ومع ماضيه وراهنه، وتعزّزه طرائقه المركبة/ الحادة، والمتجاوزة في التعبير والإنشاء والتكوين. لا يكون التخيّل، في أبسط صوره، سوى تمثّلٍ للأشياء خارج وجودها الواقعي، بمعنى خارج حقيقتها. فيما يكون التحقّق تأكيدًا للأشياء وصحّة وجودها في إطارها الواقعي. وهذا ما لا يستوي مع عنوان “تخيّلات متحقّقة”، بل يؤكد مجازيته لجهة السياق والرؤية وطرائق التعبير. وعليه، قد يغدو السؤال حول عنوان المعرض مفتاحًا لما هو مستغلق: لماذا يلجأ الفنان إلى عنونة معرضٍ فارقٍ في مسيرته، بعنوانٍ مجازي؟ في الفن، على وجه الخصوص، غالبًا ما تذهب فاعليّة التخيّل، في اتجاه تمثّل الإمكانات المحتملة وليس الواقعيّة، وتمثّل الماضي، أو المستقبل، وليس الحاضر. فتخيّل شيء ما لا يتطلّب أن يكون ذلك الشيء حقيقيًا، أو برسم التحقّق. وفيما إذا عدنا، برويةٍ وأناءةٍ، إلى سيرة الفنان ومسيرته الممتدة منذ ستينيات القرن الماضي، وصولًا إلى تخيّلاته المتحقّقة الآن في عام 2023، سوف نتعرّف على الوشائج العلائقيّة بين المحطات والممارسات والمعتركات التي مرّ بها، فاعلًا ومؤثرًا ومتأثرًا، وبين خُلاصته الفارقة في “تخيّلات متحقّقة”. أفق إنساني كان قد بلغ الثلاثين من عمره، أو كاد أن يبلغه، حين تصدّر مع ستة فنانين من مجايليه في عام 1969 تأسيس جماعة فنيّة بخطابٍ غير مسبوقٍ لجهة الرؤية وعلاقة الفن بموروثه وواقعه السياسي والاجتماعي. خطابٌ طموحٌ لم يخلُ من نبرة ٍ ثوريةٍ حالمةٍ منحازةٍ للفن والإنسان. إنها جماعة “الرؤية الجديدة” التي شكّل مؤسّسوها لاحقًا علامات بارزة في التشكيل العراقي المعاصر، وهم: رافع الناصري، وإسماعيل فتاح، ومحمد مهر الدين، وهاشم سمرجي، وصالح الجميعي. كان الفن بالنسبة لهم “ممارسة موقف إزاء العالم”، فيما كانت الثورة “تجاوزًا للقيم السلبية، وبلورةً لروح المستقبل”، وهي صانعة الإنسان الجديد “إنسان الماضي والحاضر معًا”. ابتداءً من هنا، من مرحلة “الرؤية الجديدة” المشحونة بالأمل، والمحمولة بروافع حلم التغيير، وما تلاها من مراحل متعاقبة ومتداخلة، سيجد العزّاوي نفسه في معتركٍ جديدٍ خلص معه إلى إعادة ترسيم حدود العلاقة بين التخيّل والتحقّق، بالتساوق مع انفتاح مشروعه الفني بخزينه الحضاري والثقافي على أفقه الإنساني. وليس منجزه في “تخيّلات متحقّقة” سوى واحدة من الخُلاصات الناصعة لتلك العلاقة. لم تأت خُلاصته الناصعة في جاذبيتها واختزاليتها، دفعةً واحدة، إنما استنهضها، برويّة الفنان واقتداره، من تلك المكامن التي توزّعتها دروب مسيرته الفنيّة، ليستدرجها باتئادٍ نابهٍ من محطاتها البعيدة والقريبة، إلى حيث ملتقاها الجديد في نسيج ٍواحدٍ تتقاطع خطوطه على إيقاع التآلف مع المخيال، والتحقّق في التجريد. نسيجٌ شبكيٌّ متماوجٌ الإيقاع والتقاطع. ليّنٌ ومرنٌ في تصاديه مع مرجعيّاته ومؤثراته البصرية؛ من الدمغات اللونية الصريحة، والتمثيلات، والعلامات، والرموز والإشارات، والتي سحب الفنان بعض ارتساماتها، بخفةً ناعمةً، إلى حُلّتها الجديدة في “تخيّلات متحقّقة”، فنتعرّف معها على “رجل حالم”، و”ينتظر صديقه”، و”يراقب الآخرين”، و”عاشق الطيور”، وهي بعض من أعمال المعرض، إلى جانب غيرها من الأعمال التي حملت معها بدرجاتٍ متفاوتهٍ، قسماتٌ من ماضيها الأثير. وعلى الرغم من التأثيرات والانطباعات الحسيّة التي أضفتها طبيعة المادة الخزفيّة على أعمال المعرض، على نحو مغاير للمواد والوسائط التي درج الفنان، سابقًا، على استخدمها طوال مسيرته الفنيّة، من رسمٍ ونحتٍ وتخطيطاتٍ وحفرٍ؛ إلا أنها توفّر لنا مساحة ًجانبيةً للعودة، بأثر رجعي، إلى سياقاتها الرئيسة التي أوصلتها إلى ما هي عليه الآن في “تخيّلات متحقّقة”. لم يكن توظيفه للرموز والإشارات والحروفيات والموروث الشعبي ومفردات البئية المحلية، والمستوحاة من عمقها الحضاري والثقافي في بداياته الأولى أواسط ستينيات القرن الماضي، سوى واحدة من نتائج تأكيده على أهمية معالم هويته وتعزيز ارتباطه بجذوره وموروثه، وذلك بتأثيرٍ من انجازات “جماعة بغداد للفن الحديث” التي أسسها في عام 1951 فنانون من رواد التشكيل العراقي المعاصر، من أبرزهم جواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، ومحمد الحسني. تلك “الجماعة” التي راحت في جلّ إنجازاتها تصبّ اهتمامها على الموروث الحضاري والتراثي في نطاقه المحلي، والتي سوف يرى العزّاوي، لاحقًا، أنها تأخرت عن الدخول في فعل الاختبار الحقيقي على الصعيد العربي حتّى بداية السبعينيات، وتأخر اختبارها على الصعيد العالمي أكثر من ذلك بكثير. بينما أخذت جماعة “الرؤية الجديدة” التي ساهم الفنان نفسه في تأسيسها لاحقًا، موقفًا مغايرًا؛ دعت إلى إعمال النظر في ذلك الموروث بهدف إعادة اكتشافه من جديد، والانفتاح معه على أفق الحضارة الإنسانية. ولم تغفل في الوقت ذاته عن تعظيم الحريّة الفنيّة غير المشروطة، وبالتالي رفضها الوصاية بأشكالها كافةً. “لا تمثل مساحة بغداد بطينها المفخور مكانًا للمعاينة المتخيّلة فقط، بل تتجاوزها لتصبح مكانًا خاضعًا للمسح والمراقبة والتمشيط” انطلاقًا من هذه المرحلة، وعبر سلسلة من الاستنباطات التدريجيّة في مجال الرؤية والتعبير، سيكون على الفنان إطالة النظر إلى مخبوءات الظاهرة المرئية في موروثه وبيئته، ومعاينة ارتساماتها، والوقوف معها على عتبات أفقٍ جديدٍ منفتحٍ على اتجاه ثقافاتٍ مغايرةٍ ومتنوعةٍ، أفق أكثر انتسابًا للعصر، وأكثر اتساعًا من نطاق الخصوصيات المغلقة والمنكفئة على نفسها. وهو الأفق الذي أتاح للفنان تحقيق انتشاره العالمي بعد منفاه الاختياري خارج العراق، الذي لازمه حتى الآن طوال نحو خمسة عقود. “نافذة مكسورة” التمرّد الخلّاق رفضه الوصاية بأشكالها المختلفة آنذاك، وتدرّجه في الوصول إلى أفقه الجديد في المعاينة والتجريب والتجديد، كانا بمثابة استجابةٍ عفويةٍ لنزعة التمرّد الخلّاق الذي تمرّس، لاحقًا، في إدارتها، وإذكاء شعلتها في الفن والحياة ضمن شروطه الجماليّة والإنسانيّة. لم يكن التصاقه الوثيق بالواقع وقضاياه، سوى تعبير عن موقفه الأخلاقي في مواجهة الظلم، وتبديد عتمة الظلام أينما حلّت، تلك العتمة التي مرّ بتلافيفها مبكرًا وهو لمّا يزال طالبًا في الثانويّة، حينما فصل من المدرسة بسبب مشاركة في التظاهر تأييدًا لقرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس في عام 1956. إنها العتمة نفسها التي ما يزال، مذاك وحتى الآن، شاهدًا على تفشّيها وتخييمها في ليلها العربي الطويل. مواجهة الظلام وتبدبد عتمته سوف تشكّل، لاحقًا، منطلقًا تعبيريًا للعديد من أعماله ومشروعاته الفنيّة التي واكبت المآسي العربية الناتجة عن الاضطرابات السياسية، وفساد النخب الحاكمة واستبدادها، والتي قلما تصدّر لها فنانٌ عربي بمثل ما تصدّر لها العزّاوي بصدقيّةٍ التعبير وحرارته، مجترحًا في كلّ مرةٍ، طرائق وصياغات نابعةً من جنس الحدث، وملتحمةً مع ضراوته وفظاعته. منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، راح في عدد من أعماله ومشاريعه الفنيّة يُعرّي ممارسات القبح والظلم والمجازر في غير مكان، على ذلك النحو الذي يتسع له أفق التعبير الجمالي وفق مقتضياته الظرفيّة والتخييليّة والواقعيةّ، منها: لوحة “شهادة على عصرنا” التي أنجزها في عام 1972 على وقع أحداث “أيلول الأسود” في الأردن، وسلسلة أعمال مذبحة مخيم “تل الزعتر” في بيروت عام 1976، وجداريته الشهيرة “صبرا وشاتيلا”، التي رسمها في اليوم التالي من وقوع مجزرة المخيّم الفلسطيني في عام 1982، بمساحةٍ نحو 23 مترًا، والتي يقتنيها متحف “تايت موديرن” المرموق في لندن، إلى جانب أعمال كبار الفنانين العالميين، مثل: بابلو بيكاسو، وسلفادور دالي، وجورج براك، وخوان ميرو. وفي الشروحات المصاحبة للوحة، أصرّ الفنان على تثبيت أن الميليشيات الانعزاليّة هي التي قامت بقتل أبناء المخيم بدعمٍ إسرائيلي. بعد حرب الخليج الثانية، سيكون على موعدٍ مع محطّات جديدة فرضها وقع الاحتلال الأميركي لموطنه العراق. فكان مع “بلاد السواد” عِبر تخطيطات ولوحات متنوعة الخامات والتقنيات، وبألوان داكنة ومتقشفةٍ تنسحب على المناخ الفجائعي للمآسي التي خلّفها الاحتلال، ومنها: “روح مجروحة… نبع ألم” (2010)، و”مرثية لمدينتي المحاصرة” (2011)، “الوجه القبيح للاحتلال، برونز” (2003)، فيما عكس عمله “المهمة التدمير” حال النهب والخراب الذي حلّ بالعراق ومنجزه الحضاري. أعمال هذه المرحلة بحرارة تعبيراتها، بحدّتها وجزالتها، تكاد تكون “شهادةً” من نوع ٍخاصٍ على الاحتلال وبشاعة مخرجاته؛ شهادةٌ حيّةٌ على إمكانات الفن في مواجهة القبح والخراب. ظلّ العزّاوي بعد ذلك، ومن منفاه الطويل، على مقربةٍ وتواصلٍ مؤثرين في نبض الشارع العراقي. كانت ملصقاته هي الأبرز خلال الاحتجاجات الشعبيّة التي شهدها العراق قبل نحو أربع سنوات، والتي رفعها شبانٌ لم يولد جلّهم حين غادر العراق إلى منفاه في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتناقلوها عبر صفحاتهم في وسائط التواصل الاجتماعي. كانت الملصقات محط اجماع بتأكيدها على عراق واحد للجميع، وانحيازها لشجاعة الشباب في مواجهة الظلم والرصاص، ورفض الانتقام. “ظلّ العزّاوي مسكونًا بإعادة إنتاج إرثه الحضاري بروافع جمالية معاصرة خارج نطاق الجغرافيا وتنميطات التعبير” ومع المواجهة، ذاتها، المتواصلة في الفن والحياة، نتساءل أيضًا: كيف استطاع “الشاب الثمانيني” الغائب منذ نحو خمسة عقودٍ أن يكون حاضرًا في خضمّ حشد الشباب الرافض للظلم والاستبداد؟!. وما السرّ الذي جعل منه ظاهرةً في الفن والثقافة، وكيف استطاع “الفنان والمثقف النخبوي” أن يكون حاضرًا في حراك الشارع، من دون أن يدخل العراق طوال تلك العقود؟ّ!. إنه، بلا منازعٍ، الضمير الحي للمثقّف والفنان الذي لم يكن التصاقه الوثيق بالواقع، واحتجاجه على أشكال القبح والاستبداد كافةً، سوى تعبير عن موقفٍ أخلاقيٍّ لا ينفصل في تأصيله عن الموقف الجمالي. موقفٌ أخلاقيٌّ كان، دائمًا، معه على تلك المسافة التي “تكاد” تذوب فيها الفروقات بين الفن والحياة. ظلّ الفن بالنسبة له شكلًا من أشكال الحياة المجردة من الإكراهات والاشتراطات. حياة منذورةٌ بالكامل للحرية غير المشروطة، إنها حياة الفن نفسه التي لم يكفّ عن ترويبها بالأمل، والتحليق معها بأجنحة الذاكرة والمخيال. تخيّلات متحقّقة “رجل حالم” بالأمل والمخيال، واصل التحليق في مسيرته المديدة من دون انقطاعٍ، أو اجترارٍ. واجه مرئيات العالم بأدوات المغامرة والتجريب والتجديد، فكان له ما كان؛ تقليص المسافة إلى حدودها القصوى بين الفن والحياة. وبعد ستة عقود من إطلاقه أعنّة التخيّل وارتياد آفاقه بذاكرة حلميّة نسجت خيوطها الأولى مع السومري الذي ترك مُلكه طلبًا لعشبة الخلود، وبعد سلسلة اشتباكاته مع ممكنات التحقّق ومراوغة تفلّتاته في الفن والحياة على السواء؛ يضعنا الآن مواجهةً، ودفعةً واحدةً، أمام منجزٍ “يكاد” يحلّ معه التخيّل في التحقّق. يمتزج معه، ويذوب في نسيجه، تعبيرًا وإنشاءً وتمثّلًا، على النحو الذي فاضت به مرئياته في “تخيّلات متحقّقة”. *** تواري مفردة الحرف العربي التي شكّلت واحدة من العلامات الضافية في مسيرته الفنية منذ منتصف الستينيات هو أول ما يلفت في “تخيّلات متحقّقة”. وهي المفردة التي بدأت ملامحها المبكرة بالحضور في أعماله مع “دفاتر الرسم” بعمل “مقتل الحسين” عام 1968، وتوالى حضورها بعد ذلك مع مختاراته من الموروث الحضاري والشعر العربي القديم والحديث، منها مجموعة رسوم كرّسها لملحمة “جلجامش”، وتبعها بمجموعة مختارة من نصوص الحلاج، ومن ثم أنجز دفترًا لقصيدة “انتظريني عند تخوم البحر” للشاعر العراقي يوسف الصائغ عام 1971، ومجموعة “المعلقات السبع” عام 1978، و”مقامات الحريري” و”طوق الحمامة”، وغيرها. وتتابعت إنجازاته في توظيف الحرف والكلمة مع مقتطفات ونصوص لشعراء عديدين، منهم: السياب، وأدونيس، ومحمود درويش، وسركون بولص. وكان في كلّ مرة يراكم تنويعات وصياغات اكتسب معها الحرف، حتى بتعالقاته التشخيصيّة، على السطح التصويري ذي البعدين، وتاليًا على الأسطح ذات الأبعاد الثلاثة، حضورًا تجريديًا تماهى مع نسيج العمل، ومع سياقه التعبيري والتكويني. ربما جاء تواري الحرف في أعمال “تخيّلات متحقّقة” لاعتبارتٍ ذات صلةٍ بموضوعة المعرض، حيث حضور الحرف، أو الكلمة، وإن كانت غير مقروءة كما جاءت عليه في عدد من أعماله السابقة، قد تُحيل إلى تأويل خارج السياق الحامل لموضوعة التخيّل والتحقّق. وربما كان ذلك التواري، نتيجةً لعلاقة الحرف بالتقنية التي شيّد بها أعماله بخصائصها الطبيعية والتعبيرية، الصقيلة والمختزلة، والتي توارى خلفها حضور الحرف لصالح الطابع التجريدي الغنائي الذي صبغ توليفاته الشكليّة ومساحاته اللونيّة بطابعه الإختزالي. لم يتوار الحرف كليًا عن جميع أعمال المعرض، فبعض الأعمال ظلّت تشي بترسباته وتمثّلاته وآثاره الدالة على حضوره، خاصةً تلك الأعمال التي سحبت معها بعض ظلال الحرف إلى طيّات التكوين وقسماته، مثل عملي “صحن عمر الخيام 1، 2″، وعمل “في جانب الطريق”، وعملي “رجل حالم 1، 2″، كما يظهر ذلك أيضًا، على نحو اختزالي في عمل “هدية فريدة”. بغداد متخيّلة لماذا يلجأ الفنان إلى تخيّل مدينته بغداد من الأعلى، وكأنه يراها بعين طائر من أعالي السماء؟!. جدارية نحتية مفخورة أقرب ما تكون بألوانها الطينيّة وهيئتها إلى الجداريات الأشورية. وهي برموزها وإشاراتها التي تُحيل على ما يشبه البقايا الأثرية، تقترح مخطّطًا موجزًا وغير مكتملٍ لمدينةٍ متخيّلةٍ على بلاطٍ طيني، وبإسقاط من منظور علوي لا يرمي إلى تمثيل المدينة، أو تشبيهها. وأبعد من حدود بغداد ومنظورها الجوي، يبني العزّاوي مقاربته للمدينة بين زمنين انطلاقًا من مشاهدٍ متخيّلة، ولكنها، دائمًا، مقيمةً في تجربته الخاصة التي يتناوب فيها الماضي مع الحاضر على تشييد رؤاه وتخيّلاته. لا تمثل مساحة بغداد بطينها المفخور، مكانا للمعاينة المتخيّلة فقط، بل تتجاوزها لتصبح مكانًا خاضعًا للمسح والمراقبة والتمشيط، وهو تحقّقٌ ينسحب على أي مساحة أخرى عُرضةً للتفسّخ والتهتك. النظر من الأعلى هو الطريقة المثلى للإحاطة الكلية بالأشياء، وهو ما يغذي الإحساس بالسيطرة على ما هو مرئي، وبالتالي، الإمساك به والحيلولة دون هروبه مستقبلًا. وإذا ما تقلصت حدود المسافة بين الطرفين، يصبح في الإمكان، ومن دون عُجالة، محاصرة تفاصيل المشهد المرئي، ومن ثم استنطاقه بذاكرة حلميّة متخيّلة، درءًا للنسيان. “تخيّلات متحقّقة” سحبت معها الرموز والإشارات بدلالاتها وتمثّلاتها المتنوعة، من مطارحها البعيدة والقريبة، إلى نسيج حلّتها الجديدة المصقولة بالدّربة والذاكرة والمخيال. ومن محطات الذاكرة السحيقة والمترامية منذ الملك السومري “جلجامش” وإله الإبداع “إنكي”، و”جماعة بغداد”، و”الرؤية الجديدة”، و”البعد الواحد”، وما تلاها، حتى آخر محطةٍ من محطات الراهن بتحولاته وتقلباته؛ راحت طينة أعماله تتخمّر بكل أسباب التعبير والتمثيل والحضور، طينةٌ تشكّلت وفُخرت بحرارة وجودها الجديد، فصارت وكأنها “تخيّلات” لا “تتحقّق” إلا إذا اجتمعت كل العصور في عصرٍ واحدٍ، وكل الفصول في فصلٍ؛ حيث لا اغتراب ولا حنين، إنما وعدٌ بـ”عصفٍ جميل”… إنّه عصف الفن الذي سيّره ضياء العزّاوي، وخلع عليه تخيّلاته وتحقّقاته العابرة للحدود والفصول. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post بعد تجميدها لـ 10 سنوات… الانتخابات العراقية تعود بزخم حزبي لافت next post النصر السعودي يقترب من ضم بروزوفيتش المطلوب في برشلونة You may also like فلسفة الحياة أي أن نفكر في أحوالنا اليومية والعالم 29 ديسمبر، 2024 هوبيما الرسام الهولندي الذي أسس المدرسة الطبيعية الإنجليزية 29 ديسمبر، 2024 “الحمار الذهبي” من أقدم السرديات الكبرى في التاريخ 29 ديسمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: بين “سقوط الأسد” و”مئة... 29 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن العودة إلى دمشق: قصر... 29 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يكتب عن: العودة إلى دمشق.. عشوائية... 29 ديسمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024