مارك بلوك ولوسيان فيفر وذريعتان للمقاوة (اندبندنت عربية) ثقافة و فنون عن “عقدة الاضطهاد” التي تعانيها الثقافة الفرنسية تجاه الإنجليز by admin 6 أغسطس، 2023 written by admin 6 أغسطس، 2023 59 هل تواطأ لوسيان فيفر كما يوحي ناقد لندني للتخلص من شريكه في “الحوليات” مارك بلوك؟ اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب منذ زمن بعيد، وربما يعود إلى زمن الثورة الفرنسية العزيزة على قلب معظم الفرنسيين، يشعر هؤلاء بأن ثمة دائماً في إنجلترا من ينتظرهم على قارعة الطريق كامناً كي يكبدهم ما يحلو له من “ضربات تحت الحزام”، ولا سيما في المجال الثقافي. ويرى فرنسيون عادة أن الإنجليز يدأبون على أن تكون ضرباتهم وضيعة بحيث تمس ما يعتبرونه “مقدساً”. وهم لدعم فكرتهم المولدة لهذا النوع من البارانويا يحكون عن أن الهجمات التي تعرض لها، مثلاً، عالم إناستهم الكبير كلود ليفي ستروس أتته بخاصة من الجيران الإنجليز، وكذلك الحال مع ميشال فوكو الذي بقدر ما يحترمه الأميركيون وبقية الأنغلو – ساكسونيين، يحاول “مثقفو” لندن بخاصة النيل منه والاستخفاف بفكره “لمجرد أنه فرنسي ويشكل رأسمالاً فكرياً فرنسياً كبيراً” كما يقولون. وفي هذا السياق ذاته اندلعت قبل عقد ونصف العقد قضية تتعلق بـ”مقدس فكري آخر” من مقدسات الثقافة الفرنسية ونعني بذلك مدرسة “الحوليات” ومجلتها الكبرى التي تحمل الاسم نفسه وتعتبر مبتدعة ما سيسمى بـ”التاريخ الجديد”. ولسوف يطاول “الغدر الإنجليزي” هنا، ليس المجلة والمدرسة وأفكارهما التي عمت العالم كله، بل أخلاقيات واحد من مؤسسيها الكبيرين، لوسيان فيفر وإريك بلوك، بل أكثر من ذلك، “الغدر الذي عامل به أولهما الثاني فقضى عليه”، فهل كان هذا صحيحاً؟ لن يعود قبل أن نجيب عن هذا السؤال قد لا يكون مفر من حكاية “فرنسية” توضح الأمر. وهي حكاية كتبها رومان غاري وقد لا يبدو أول الأمر واضحاً ارتباطها بما نتحدث عنه هنا. والحكاية تدور خلال الحرب العالمية الثانية في منطقة ريفية فرنسية وقعت تحت الاحتلال الألماني يعاونه فاشيو فيشي الفرنسيون. ففي تلك المنطقة كان ثمة مصنع للنبيذ الفاخر يملكه ثري يهودي. وإذ بدأت حكومة الماريشال بيتان بالتخلص من اليهود وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال ومنها إلى الموت، خشي الثري اليهودي على حياته فنصحه مساعدوه الفرنسيون الأقحاح بأن يختبئ في دهاليز الطابق السفلي من قصره الكبير حتى تنتهي الحرب واعدين إياه بأن يديروا مزارعه ومصانعه كما كان حالها دائماً ويحفظون له أمواله، مؤمنين له كل ما هو في حاجة إليه “حتى تنتهي الحرب فيعود إلى سطح الأرض عزيزاً مكرماً ويستعيد المزارع والمصانع والأموال وكأن شيئاً لم يكن”. كتاب برتراند مولر عن مارك بلوك ولوسيان فيفر ومجلة حوليات (أمازون) الحرب حين “تستمر” صحيح أن الحرب انتهت بعد سنوات لكن الثري اليهودي ظل يعيش في مخبئه، وذلك لأن النصيحة البدئية كانت تفترض أن ينقطع عن العالم وأخباره تماماً “كيلا يلتقط الألمان أية إشارة تكشف عن وجوده”، بالتالي لن يعلم المسكين أن الحرب انتهت. وبقي هناك ينتظر اتصالات معاونيه به حتى انتهى الأمر به إلى الموت بعد سنوات من انتهاء الحرب فعلياً من دون أن يعرف أنه كان في وسعه أن يعود إلى حياته الطبيعية منذ سنوات. وطبعاً لسنا ندري ما إذا كانت الحكاية حقيقية، ولكن من الواضح أن رومان غاري كتبها محملاً إياها كثيراً من المعاني الأخلاقية والاجتماعية، لكننا نعرف أنها توقفت ها هنا مثيرة كثيراً من السجالات والغضب. حسناً كل هذا صحيح ولكن يبقى السؤال الأساسي هنا: ما علاقتها بموضوع “الحوليات”؟ للوهلة الأولى ليس ثمة علاقة، ولكن صدور واحد من أهم الكتب التي أرخت لمدرسة ومجلة “الحوليات” من تأليف أحد أبناء الجيل الثاني من مؤرخيهما، وهو أندريه بورغيار، كان مناسبة لمؤرخ وناقد إنجليزي هو ريتشارد إيفانز، بروفيسور مادة التاريخ الحديث في كامبردج، كي يعود إلى حكاية تلك الظاهرة العلمية التي يعترف لها بأنها جددت حقاً في مجال كتابة التاريخ، حتى وإن كان يأخذ عليها تفاقم اهتمامها بالتاريخ الفرنسي الذي يشغل ما لا يقل عن 70 في المئة من صفحات كل عدد منها بينما يخبرنا أن اهتمام المؤرخين الإنجليز بتاريخ العالم لا تقل نسبته عن 50 في المئة وتصل إلى أكثر من ذلك لدى المؤرخين الأميركيين. غير أن هذه “الوقائع الإحصائية” في رأي إيفانز تبقى بسيطة إذا ما تذكرنا، كما كان يقول كاتب إنجليزي يسميه بول فراير وكان في ذلك الحين يعيش في باريس، ضروب “دناءة” يقول إن تاريخ المدرسة والمجلة عرفهما خلال الحرب العالمية نفسها. “الحل الوحيد” ولعل الأشد قسوة من بين تلك الضروب تلك الحكاية التي تعيدنا هنا إلى القصة التي يرويها رومان غاري وأشرنا إليها أعلاه. وفحواها هنا أنه خلال الحرب وإذ راحت حكومة فيشي البيتانية النازية تمارس سياسة اضطهاد اليهود واعتقالهم بل حتى التخلص منهم في معسكرات الاعتقال، بدا من الواضح أن تلك الملاحقات تهدد “الحوليات” بدورها والسبب: أن واحداً من مؤسسيها، أي مارك بلوك، يهودي حتى وإن كان مؤسسها الثاني لوسيان فيفر “فرنسي لا غبار على فرنسيته”. فما العمل؟ بكل بساطة هناك حل واحد يحفظ لـ”الحوليات” وجودها ومكانتها. وهو حل رأى فيفر في مناقشته الأمر مع شريكه أنه يقتضي اختفاء هذا الأخير. ومن هنا قد تكون الوسيلة الفضلى لذلك الاختفاء توجه بلوك إلى المناطق الجنوبية الواقعة تحت سلطة المقاومة الديغولية – اليسارية، فيربط مصيره بمصيرها مبتعداً عن باريس و”الحوليات” ريثما تستقيم الأمور. صحيح أن بلوك راقت له الفكرة وتوجه بالفعل إلى تلك المناطق… سراً ومن دون أن يخبر لا هو ولا شريكه بالأمر أحداً. وهكذا توجه بلوك وهو مطمئن في عام 1944. غير أن سلطات فيشي سرعان ما علمت بأمره فطاردته واعتقلته ثم أعدمته. كيف حدث ذلك؟ لا أحد يملك جواباً، فهل كان لشريكه علاقة بالأمر؟ فراير لم يوضح ذلك. ومن المؤكد في المقابل أن ما من أحد اتهم فيفر بشيء. ولا حتى إيفانز الذي أورد الحكاية من دون أن يعلق عليها بالتأكيد، فما حصل في الماضي يبقى ملكاً للماضي، والمؤرخ ليس محققاً ولا قاضياً. تحت شعار المقاومة لكن بإمكان المؤرخ أن يختم حكايته، وإيفانز لم يتخل عن مثل تلك الإمكانية. وهكذا نجده يكتب على سبيل الاستطراد أن لوسيان فيفر أمضى سنوات ما بعد الحرب هادئاً مطمئناً ولا سيما أنه في أشهر القتال الأخيرة أعلن بدوره انتماءه إلى المقاومة، قائلاً في رسالة بعث بها باسم “الحوليات” إلى وزارة الداخلية أن هذه كانت من المؤسسات الأكاديمية القليلة “التي حافظت على روح المقاومة”، مستشهداً في ذلك بمقاومة بلوك وانضمامه هو نفسه إلى المقاومة “على خطى ذلك المؤرخ البطل”. ومن الطبيعي أن فيفر لم يجد، بحسب ما يؤكد إيفانز، من يعارض توصيفه هذا، ففي نهاية الأمر ظلت تلك الوثيقة محفوظة في الأرشيف الخاص بوزارة الداخلية التي كان فيفر قد توجه إليها في سبيل الحصول على بعض الوثائق الإدارية الرسمية. ويبقى أن لوسيان فيفر، ودائماً بحسب إيفانز، تمكن بعد الحرب من الاستفادة “من الهيكلية المركزية التراتبية لتعليم التاريخ في الإطار الجامعي الفرنسي ليصل إلى قمة التعليم التاريخي الذي كان قبل ذلك حكراً على التاريخين السياسي والدبلوماسي”. وبقيت له تلك المكانة التي مكنته على أية حال، وحتى رحيله عن عالمنا في عام 1956 من أن تكون له هيمنته الكبرى على “الحوليات” مكانة كان قد بدأ يشاركه فيها خليفته الكبير فرنان بروديل الذي عرف كيف يحيي معه ذكرى “رفيقنا وأستاذنا الكبير إريك بلوك الذي استشهد في سبيل الوطن معطياً لمؤسستنا الثورية مكانة تتجاوز الإطار الأكاديمي لتحلق في فضاء العمل الوطني المقاوم”. وطبعاً في ذلك الحين كان من الصعب على أي كان أن يتذكر قصة رومان غاري. فهذا النوع من التاريخ ينطوي وينسى على عكس التاريخ الاجتماعي والاقتصادي الذي تهتم به “الحوليات” وكبار مفكريها… حتى وإن كان يمت بصلة ما إلى التاريخ الأخلاقي وتاريخ الذهنيات الذي لا بأس من وضعه جانباً في حالات الضرورة القصوى! المزيد عن: الثورة الفرنسيةأندريه بورغيارريتشارد إيفانزرومان غاريحكومة فيشيلوسيان فيفر 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “الخمسة”… موسيقى الأرض الروسية ضد النزعة الغربية next post دماغنا الذي يطرح علينا بإلحاح سؤال الخير والشر You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024