يظل الإسلام بالفعل هو الحاكم – في الأقل تشريعياً - بحسب ما تنص عليه المادة الثانية من الدستور المصري (أ ف ب) عرب وعالم عقد على إسقاط الحكم الديني في مصر… هل انتهى فعلا؟ by admin 3 أغسطس، 2023 written by admin 3 أغسطس، 2023 248 لا يكاد يخلو حديث من إشارة إلى الدين وحتى في ساحة الثقافة يرى كثيرون أن العلمانية “شر مطلق” اندبندنت عربية \ أمينة خيري صحافية أجواء شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) تستحضر حرارة أحداث اعتصام ميدان رابعة العدوية في مصر وضراوة الهتافات ضد “دولة المرشد” لصالح الدولة المدنية، في مقابل “إسلامية إسلامية رغم أنف العلمانية” و”لا تراجع لا استسلام حتى يحكم الإسلام”. مرت 10 سنوات بالتمام والكمال على إسقاط حكم الإخوان الديني، ولكن الإسلام بالفعل هو الحاكم في مصر – في الأقل تشريعياً – بحسب ما تنص عليه المادة الثانية من الدستور. إنها المادة الأكثر إثارة للشد والجذب والقيل والقال. وهي المادة التي يبكي على لبنها المسكوب – على رغم أنه لم يسكب يوماً – جماعات الإسلام السياسي والمتعلقين بتلابيب المس الديني خوفاً من أن تتحول الدولة إلى كافرة. وهي كذلك المادة التي تعتبرها تيارات متعددة من الإسلام السياسي – بدءاً بجماعة الإخوان مروراً بجماعات سلفية وأصولية وانتهاء بالجماعات التكفيرية – غير كافية لإشهار مصر “دولة إسلامية” قلباً وقالباً. قلب مصر وقالبها قلب مصر وقالبها مرا بتغيرات عديدة، بعضها يرتقي إلى مستوى البراكين والزلازل والأعاصير على مدار ما يزيد على نصف قرن، وبعضها الآخر أشبه بعمليات النحر التي تحدثها الأنهار على مدار عقود وقرون من دون أن يعي السكان. هذه التغيرات كشفت عن أثرها وأزاحت الستار عن مدى عمقها في الأحداث والحوادث التي تلت يناير (كانون الثاني) عام 2011. في أحداث 2011 نظر المصريون إلى أنفسهم في مرآة الميدان بكل فخر وفرحة، وتداولوا صوراً فوتوغرافية لمتظاهر بوشم صليب على رسغه يقف حارساً بينما يؤدي المتظاهرون الصلاة، وتابعوا هتافات “مسلم مسيحي يد واحدة” وهم مزهوون بأجواء التعايش والتسامح، لكن يبدو أن هؤلاء المزهوين وغيرهم من المتابعين في كل مكان لم يسعفهم أدرينالين الثورة وتسارع الأحداث للتفكر والتدبر في ما إذا كان جانب مما يجري في الميدان ينبئ بأن النظام والدولة والمؤسسات والشعب والمعارضة ربما تحتوي مكوناً من شأنه أن يحول دون حدوث تغيير جذري أو تطوير كلي أو حتى وضع تعريف واضح للدولة، سواء حكمها هؤلاء أو تحكم فيها أولئك. بين السياسة والدين إنه مكون الخلط اللذيذ بين السياسة والدين، وبين الدين والدولة، وبين الدين والحكومة، وبين الدين والشعب، وبين الدين والتاريخ، وبين الدين والجغرافيا، وبين الدين والتغيير، وبين الدين والحياة. يقول مستشار مركز “الأهرام” للدراسات السياسية والاستراتيجية عماد جاد في مقالة عنوانها “الدين والسياسة في مصر” (2016) إن “لمصر تاريخاً عريقاً في الخلط بين الدين والسياسة، فمصر القديمة شهدت تزاوج الدين والسياسة عبر علاقة الفرعون بكهنة المعابد وعبر انتساب الملوك للآلهة، وهو الأمر الذي أيقنه بعض غزاة مصر الذين أرادوا كسب قلوب المصريين فنسبوا أنفسهم إلى آلهة المصريين. وعندما دخلت المسيحية مصر في العقد السابع الميلادي (62 ميلادية) وتحول غالبية المصريين إلى الديانة الجديدة، دافع المصريون عن عقيدتهم الجديدة في مواجهة الرومان، ودفعوا مئات الآلاف من الشهداء للذود عن عقيدتهم. وعندما تحول غالبية المصريين إلى الإسلام قادت مصر العالم الإسلامي ومنها ظهر الدعاة، وعلى أرضها بني الأزهر مرجعية الإسلام السني في العالم، ومن أرضها خرج المفسرون والشراح”. الأمر لا يقتصر على الخروج، بل أصله هو التجذر في الداخل، فحكام مصر على مر التاريخ القديم والمعاصر واصلوا توظيف الدين لخدمة الحكم. ويقول جاد إن هذا التوظيف حدث في عهد النظام الملكي، وفي ثورة يوليو (تموز) عام 1952، كما برز ذلك بشكل واضح في عهد “الرئيس المؤمن” محمد أنور السادات، الذي “كثف من جرعة توظيف الدين لخدمة السياسة، وغير مواد الدستور حتى تسمح له بالترشح لأكثر من دورتين، ونص على اعتبار الشريعة المصدر الرئيس للتشريع، ومارس اللعبة مع الجماعات الإسلامية المتشددة فدفع حياته ثمناً لها”. ثم جاء الرئيس الراحل السابق محمد حسني مبارك، ومارس اللعبة نفسها لكن من دون الإشارة إلى نفسه باعتباره “المؤمن” أو “العارف بالله”، فقلما استخدم مبارك في خطبه أو أحاديثه المرتجلة إشارات إيمانية أو تعبيرات دينية من تلك المعروف أنها تدغدغ مشاعر قطاع عريض من المصريين. لكنه كان يصلي الجمعة “على الهواء مباشرة” وكذا العيدين مع الوزراء، أو في وحدة عسكرية مع الجنود والضباط، أو في المساجد الكبرى، من دون هالة الإيمان الشعبية التي قد تتمثل في إشارات عفوية إلى ما قال الله وما قال الرسول (ص)، أو حتى عبر ما يسميه المصريون “زبيبة الصلاة”، تلك العلامة على الجبهة ودليل الصلاة وإطالة السجود. استمرار الخلط على رغم ذلك فإن مبارك لم يشذ عن قواعد اللعبة، إذ مارس الخلط بين الدين والسياسة، ولعب مع جماعة الإخوان المسلمين لعبة العين الأمنية الحمراء تارة، وترك ملعب الأرض وقدراً من الانتخابات والبرلمان لهم تارة أخرى، وهو ما أدى إلى انقلاب السحر على الساحر. لكن أحداث 2011 لم تتفجر لأسباب دينية، وإن كشفت عن غطاء الواقع الشديد الاختلاط والتشابك، حيث الدين – أو ما يبدو أنه دين – متغلغل في كل كبيرة وصغيرة، بدءاً بزوايا الصلاة على حرم أرصفة المواصلات العامة، مروراً بموازنات مليارية للمؤسسات الدينية الرسمية مثل الأزهر والأوقاف، وانتهاء بانتقاد ولعن وسب وربما مقاضاة من يدعي أو يطالب أو يناقش علمانية الدولة. على أرضها بني الأزهر مرجعية الإسلام السني في العالم أجمع (ويكيبيديا) “مصر دولة علمانية بالفطرة”، هذه العبارة فتحت أبواب جهنم الحمراء على الكاتب حلمي النمنم وقت أن كان وزيراً للثقافة عام 2015، فقبل أن ينهي لقاءه التلفزيوني الذي أشاد فيه بالعلمانية، وقال إنها ليست نقيضاً للإسلام، وإن كل مسلم وسطي معتدل هو علماني بالضرورة، وإنه سيظل ضد كل من يحاول أن يحيل مصر إلى دولة خلافة، حتى كانت سكاكين الطعن انسلت، وسواطير الذبح أشرعت، ولم يتبق سوى إصدار فتوى بتكفيره. يومها ظن كثيرون أن المهاجمين للنمنم هم القواعد الشعبية لجماعة الإخوان المسلمين والمنتمين للجماعات السلفية من المصريين، لكن حقيقة الأمر أن بين المواطنين العاديين من غير المنتمين لهذه الجماعات من امتعض لمجرد ذكر كلمة “علمانية” مرتبطة بمصر. هل العلمانية كفر؟ شعبياً الكفر أحد مفردات العلمانية، وسياسياً فإنه حتى أولئك الذين حلوا محل “الإخوان” لا يجرؤ أحدهم على ذكر الكلمة في أي سياق، وحتى في الساحة الثقافية ولدى قطاع عريض من روادها وأسمائها البارزة فإن العلمانية شر مطلق وخطر محدق. كشف الكاتب الصحافي مجدي الجلاد العام الماضي في فيديو بثه عبر قناته على “يوتيوب” عن أسرار العلمانية في مصر، تطرق فيه إلى “أولئك الذين يقولون إن الدين يجب أن يتراجع في حياة المصريين لتسود الأفكار العلمانية وألا تكون مسألة الحلال والحرام هي الحاكمة في الحياة، ومنهم من لا يثق بشكل مطلق في الكتاب السماوي ولا في الأنبياء ولا الصحابة”. وقال الجلاد أن هؤلاء لديهم “سبونسرز” (رعاة) يتقاضون منهم الأموال في سبيل بث هذه الأفكار، معتبراً أن ما يناقشه بعضهم حول فرضية الحجاب من عدمه ضمن جهود العلمانيين في أداء رسالتهم يدخل في إطار ترسيخ العلمانية في المجتمع. الفيديو حقق انتشاراً كبيراً بين ملايين، بمن في ذلك من كانوا حتى الأمس القريب يعتبرون الكاتب مجدي الجلاد واحداً ممن دعموا جهود إسقاط “الناس بتوع ربنا” عام 2013، لكنه أيضاً أعجب وأطرب قواعد جماهيرية غفيرة ممن ترى نفسها “متدينة بالفطرة”، على عكس ما قاله وزير الثقافة السابق حلمي النمنم. كهنة التنوير ردود فعل شعبية مشابهة لكن أكثر حماسة دارت رحاها حين تحدث مفتي مصر السابق والمقرب من النظام علي جمعة عن العلمانية، وكيف أن “كهنة الديمقراطية وكهنة التنوير وكهنة الحداثة وكهنة ما بعد الحداثة” يقولون عبارة “غير مفهومة ولا يفهمونها هم أنفسهم، قوامها أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة”. ويسترسل جمعة في شرح معنى العلمانية كما يراها، والخلاصة أن من يطالبون بالعلمانية يعتبرون الدين معرقلاً بأخلاقه الرفيعة وقيمه السامية. مدنية الدولة من عدمها ليست قضية الناس، بل الأوضاع الاقتصادية الصعبة (أ ف ب) واعتبر جمعة تعريف العلمانية بكونها فصلاً بين الدين والدولة “سطحياً” ومبسطاً جداً، مضيفاً “نحن (المصريين المسلمين) ننطلق (لمواكبة للعصر)، ولكن من قواعد ثابتة (قواعد الدين التي يخبرنا بها العلماء المتخصصون)”. في المقابل واجه الإعلامي أحمد سالم حرباً شعواء واتهامات هادرة بمحاولات هدم الدين وتفريغ الدولة من مقومها الإيماني حين تحدث في برنامجه “المواجهة” عن التسميات السيئة السمعة في المجتمع المصري، إذ قال سالم “هناك تسميات لو ذكرتها في مصر ستجد من يتحسس مسدسه، لو قلت إنك علماني فهناك من سيراك ملحداً وضد الدين وهدفك الرئيس نشر الطفر والفجور، على رغم وجود علمانيين كثر ملتزمين دينياً وأخلاقياً”. الوحيد الذي نال استحسان المراقبين المستنفرين هو أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر الشريف أحمد كريمة المعروف بمواقفه التي يعتبرها بعضهم متشددة، إذ قال إن “العلمانية هي الحياة اللادينية تماماً، يعيش العلماني حياة مادية لا علاقة له بالآخرة، لأنه أصلاً لا يؤمن بالآخرة، ومنهم من لا يؤمن بالله، ومنهم من يعتقد أن الله انقطعت صلته بالعالم والعياذ بالله”. الخبث والخبائث تستعيذ إلهام جمعة (58 سنة) بالله من الشيطان الرجيم ومن الخبث والخبائث، قبل أن تقول بكل ثقة إن “مصر دولة إسلامية أهلها ناس طيبون متدينون، يصلون ويصومون ويصلون على النبي (ص). وما هذه التسميات (دولة دينية أو مدنية أو علمانية) إلا كلام فارغ، فما يعنينا هو إننا متدينون ودولتنا متدينة ومصر مؤمنة”. “مصر العظيمة المؤمنة، لا وألف لا لكل أعداء الحياة، مصر نيلها مفتاح الحياة”، بعض من كلمات أوبريت “لا وألف لا” الذي قدمته مجموعة من الفنانين المصريين في أوائل عام 2011 – قبل اندلاع أحداث يناير- رداً على تفجير كنيسة القديسين في الدقائق الأولى من ذلك العام. ثم اندلعت الثورة، وبعدها بأسابيع ظهرت جدلية مفادها هل ينبغي أن تكون مصر دولة دينية أم مدنية؟ وفي أقوال أخرى هل كانت مصر يوماً دولة مدنية؟ والأدهى من ذلك، أن بعضاً منهم اكتشف أن العلوم السياسية لم تعهد من قبل عبارة “دولة مدنية”، وأن الدول الإسلامية على الأرجح هي السبب في هذا المسمى. إما علمانية أو دينية فالدول إما علمانية تفصل بين مؤسسات الدولة والسلطة الدينية، أو دينية حيث الزعيم أو القائد أو الرئيس أو الأمير هو نفسه الزعيم الديني، لكن التعريفات على أرض الواقع ليست أبيض وأسود فقط، بل هناك مناطق رمادية يتداخل فيها الدين مع الدولة. فهناك دين رسمي، وهناك دولة تميل إلى دين بعينه من دون شرط الإشهار أو الإعلان، ودولة لا دين رسمياً لها، ودولة تعادي الدين، وقائمة المناطق الرمادية طويلة. التدين الفطري – أو الشعور بأن الجميع متدين بالفطرة – سائد منذ قرون (أ ف ب) بحسب تقرير لمركز بحوث “بيو” (مقره واشنطن) عام 2017، فإن واحدة بين كل خمس دول لديها دين رسمي أغلبها دول إسلامية. وهناك 20 في المئة من دول العالم لديها دين مفضل أو مرجح، وعدد دول العالم التي ليس لديها دين رسمي أو مفضل هي الغالبية، لكنها غالبية ضئيلة تبلغ 53 في المئة من دول العالم. وهناك 10 دول، أي خمسة في المئة من دول العالم، معادية للدين، وأظهر التقرير أن الغالبية المطلقة من الدول التي لديها دين دولة معلن تقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. دين الدولة في مصر هو الإسلام كما ينص الدستور، وثقافة الغالبية المطلقة من المصريين ممن يحملون بطاقات هوية مكتوب فيها “مسلم” في خانة الديانة خليط من العادات والتقاليد المغزولة بالدين. وتفاصيل الشوارع وأسماء المحال والمواليد (لا سيما في السنوات الأخيرة) مشتقة من الإسلام، وجانب كبير من تفاصيل الاحتفالات والفعاليات بما فيها الفنية والترفيهية لا تخلو من نكهة دينية. في كل حديث ولا يخلو حديث للمصريين من إشارة أو اثنتين أو ثلاثة أو 10 إلى الدين بسبب ومن دون سبب، وكثير منها يذكر في مناسبات شديدة التناقض، فسبب الاستمرار في العيش على رغم قسوة الأوضاع الاقتصادية هو “بركة ربنا”، وسبب الأوضاع الصعبة هو “ابتعادنا عن ربنا”. وابتسامة الرضا على وجوه الفقراء سببها “التدين”، ونسب الفقر المرتفعة سببها “عدم التدين الكافي”، والتجار يسرقون قوت المواطنين “وربنا سيشويهم في نار جهنم”. أما سائقو الأجرة والسياس الذين يأخذون أموالاً من دون وجه حق، وموظفو الحكومة الذين يتقاضون الرشوة في مقابل إتمام المعاملات فـ”فقراء إلى الله”. والحكومة تهدم المساجد لتوسعة الطرق وبناء الجسور “وهذا يغضب الله”، وتنفق مليارات على بناء مزيد من المساجد وترميم القديم “وهذا دليل ورع الحكومة وقربها إلى الله”، ومصر لم تلتحق بمصاف الدول الكبرى “لأنها بعيدة من الله”، وهي “محمية من الله، ومذكورة في القرآن”، وأغلب الناس “لا يراعون الله” في أعمالهم، لكنهم في الوقت نفسه “متدينون بالفطرة”. التدين الفطري – أو الشعور بأن الجميع متدين بالفطرة – سائد منذ قرون، لكن التدين لدى المصريين اتخذ أبعاداً مختلفة وأشكالاً جديدة في العقود الخمسة الماضية، أغلبها يتعلق بتغير كود الملابس حيث انتشار الخمار والنقاب، بينما أصبح الحجاب أقرب ما يكون إلى الزي الرسمي الذي يفرض في مدارس حكومية من دون شرط توثيق أو تدوين الإجبار، كما يتعلق بالصلاة في أي مكان وكل مكان في المصالح الحكومية ومحطات المواصلات العامة وقاعات النوادي وأبهاء المستشفيات حتى لو كان هناك مسجد على مرمى حجر، ويتعلق كذلك بتوسع غير مسبوق في مفهوم المدارس “الدينية” حتى وإن كان اسمها “إنترناشونال”، وأيضاً في عداد مكبرات الصوت المتنامية أعلى المساجد لدرجة أن المسجد الصغير الواحد المتاخم لآخر أو آخرين يمكن أن يباهي بخمسة أو ستة مكبرات صوت. وفي حال شكا أحدهم من ارتفاع الصوت أو قبح صوت المؤذن الذي لا يكون بالضرورة شيخاً، يناله كثير من اتهامات كراهية الدين. كثرة ترديد أقاويل بأن أحداث صيف عام 2013 ضد حكم “الإخوان” هدفها هدم الدين وغايتها معاداة المتدينين، وأن النظام الجديد سينتهج نهجاً يؤدي إلى علمانية الدولة أو تحقيق قدر أكبر من المدنية، أدى إلى تخوف بعضهم في حينها. فالكتائب والميليشيات الإلكترونية التابعة والمتعاطفة مع جماعة الإخوان المسلمين لم تكن وحدها التي بذلت جهداً عاتياً في تثبيت هذه الفكرة، بل تماهت مراكز بحثية واستطلاعية غربية مع الفكرة، وخرجت دراسات تؤكد أن السياسة المصرية الجديدة تبتعد تماماً من الدين، وأن نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي يسير بسرعة شديدة نحو إغلاق المساجد التابعة لجماعات يصفها بـ”الأصولية”. وذهب بعضهم إلى أن أعداد المصريين التي تذهب للصلاة في المساجد آخذة في النقصان، وأن حظر جماعة الإخوان المسلمين سيؤدي إلى تأسيس دولة ديكتاتورية علمانية. مقاومة المدنية المؤكد أن الدولة لم تتجه إلى العلمانية، بل هناك من يشير إلى أن “مدنية” الدولة التي حلم بها بعضهم حين تحدث الرئيس المصري للمرة الأولى عن تنقية وتحديث الخطاب الديني عام 2016، لم تحدث من قريب أو بعيد، فالمقاومة شديدة على رغم دعوة رئيس الدولة. وبعيداً من مطالبات تجديد الخطاب الديني التي أطلقها الرئيس ولاقت مقاومة خفية، وملأت الإعلام وأشعلت حماسة القلة الحالمة بالدولة المدنية، فإن المشهد العام الحالي يشير إلى أن مصر لا هي مدنية تماماً أو دينية بالكلية. بالطبع هي ليست علمانية، بمعنى العلمانية الوارد في مراجع العلوم السياسية وليس في مراجع علماء الدين والمجتهدين في التفسير والتأويل. اتخذ التدين لدى المصريين أشكالاً جديدة في العقود الخمسة الماضية (أ ف ب) العلامات كثيرة والإمارات عديدة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وعلى رغم أن الدستور المصري يحظر إنشاء أحزاب سياسية على مرجعية دينية فإن حزب النور (السلفي) حي يرزق. رئيس الهيئة العليا للحزب سامح بسيوني كتب في أبريل (نيسان) عام 2022 عن العنف المجتمعي محدداً عدداً من النقاط لمواجهة الظاهرة، منها “أن البعد من التزام التشريعات الإسلامية من أعظم أسباب التطبيق الخاطئ لمفهوم القوامة الذي يحدث من بعض الأزواج، أو بسبب تأثر الزوجات في المنطقة العربية بتلك التقليعات النسوية الغربية الهادمة لقوام الأسرة في المجتمع. وعلى الدعاة والمصلحين في المجتمع إخلاص النية لله في أعمالهم، والعمل على شمولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع كل الفئات وفي كل المجالات بالحكمة والموعظة الحسنة. ويجب تجديد أساليب ووسائل الطرح بما يناسب الأجيال الجديدة وجذبهم للاستماع لصوت الحق، واستخراج بذور الخير من نفوسهم وتنميتها وإبعاد نزعات الشياطين عنهم. كما يجب فتح أبواب الرجاء والعودة لله في نفوس المتلبسين بمثل هذه الأفعال (السيئة) والغارقين في المستنقعات، مع تخويفهم بالله من مغبة الاستمرار في مثل هذا الطريق، وبيان سعة رحمة الله لمن عاد للطريق المستقيم. وهناك ضرورة للعمل على عدم تصدير القدوة المفسدة للشباب والفتيات بمنع أعمال الإفساد الفني المصدرة للعنف أو للعهر والمجون في المجتمع”. مدنية “بين بينين” قطاعات غير قليلة في المجتمع مشبعة بأفكار شديدة التطابق مع هذا الطرح، وهو ما يمكن تقصيه والتأكد منه في الشارع وعبر تعليقات عادية على صور الفنانات وآراء مثقفين تطرح في قضايا تميل إلى نقد تفسيرات بعينها في الدين، أو انتقاد آراء وتفسيرات مشايخ بعضهم رحل عن الدنيا ولكن ربما أسهموا في ترسيخ التطرف وتجذير الانغلاق. لكن هذا لا يعني أن مفهوم الدولة المدنية – الذي لا وجود له في مراجع العلوم السياسية – لا يتداول بين بعضهم أحياناً، لكن أغلب التداولات يرفع شعار “بين بينين”. إذ تسأل إحداهن على منصة “إكس”، “ما المشكلة أن تكون مصر دولة مدنية تحكمها قوانين وأخلاق إسلامية؟”، لتتلقى ردوداً تتراوح في “مدنيتها” بين “المدنية هي العلمانية الكافرة ولكن متنكرة، فاحذري من الوقوع في الشرك”، و”الحمد لله على نعمة الإسلام، ونتمنى أن تكون كل قوانيننا مستمدة من الشريعة”، و”المدنية الحقيقية لا دين فيها. الناس متدينون، هذا شأنهم، لكن الدولة المدنية ليست متدينة أو غير متدينة، هي دولة مؤسسات وقوانين”. الكاتب هاني لبيب كتب عام 2020 تحت عنوان “تعالوا إلى الدولة المصرية المدنية”، قائلاً إن “النظام السياسي المصري غير منحاز دينياً، لكنه لا يعتنق العلمانية باعتبارها، كما يفسرها بعضهم في مجتمعاتنا العربية، ضد الدين. على رغم أن الحقيقة تؤكد انحياز مصر للدولة المدنية التي تعتمد فصل الدين عن الدولة من دون استبعاده أو تهميشه، فضلاً عن رفض الفزاعة التي يروج لها باعتبار الدولة المدنية المصرية ضد الدين، فالدين مكون رئيس للشخصية المصرية لا يمكن إهماله، وإنما باستطاعتنا تحديده وتحييده أمام الدستور، مع إعلاء القانون والتأكيد على أنه فوق الجميع”، محذراً من تسييس الدين الذي يؤدي بالضرورة إلى تديين السياسة. عام 2011 وبعد انقضاء أحداث الـ18 يوماً الشهيرة يوم الـ11 من فبراير (شباط) وبينما القوى السياسية تعيد اكتشاف نفسها وتتفاجأ بجماعات ومجموعات الإسلام السياسي تبدأ في عملية الإسراع نحو كعكة الحكم أملاً في أسبقية الوصول، لم ينتبه كثيرون إلى ما كان يقال عن مدنية الدولة من مشايخ تمتعوا بشعبية هائلة بين المصريين على مدار عقود. على سبيل المثال قال الشيخ أحمد المحلاوي إن “من يطالبون بالدولة المدنية في مصر كفرة وعبدة الطاغوت”، والقيادي الإخواني صبحي صالح أكد غير مرة أنه “لا يوجد مسلم ليبرالي ومسلم يساري، فقط مسلم وكافر”. واتسمت هذه الحقبة بكثرة التصريحات الصادرة عن رموز الإسلام السياسي، التي – على رغم اختلاف مكوناتها بين “إخوان” وسلفيين وتكفيريين وغيرهم – فإن الجميع اتفق على محاربة “مدنية الدولة”، وهو ما لم يؤرق القاعدة العريضة حينئذ. قضية القاعدة مسألة مدنية الدولة من عدمها ليست قضية القاعدة، أولوية هذه القاعدة هي الأوضاع الاقتصادية الصعبة الراهنة، وهي الأوضاع التي يأتي ذكر الدين فيها كثيراً، سواء من الإعلام حيث محاولات تطبيب جراح الأزمة أو تسكين آلام التعويم والأسعار والتضخم بأحاديث دينية عن الرضا والدعاء، والتأكيد أن “الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بـ500 عام”، أو أن “أيام الفقر تدعو إلى الفخر”، أو أن “الاستغفار كتالوج علاج الفقر والشقاء والمعاصي” وغيرها كثير. الهوى العام المائل إلى تديين الحياة “عام” بالمعنى الحرفي للكلمة، المناقشات التي تدور على أثير الـ”سوشيال ميديا” تنضح بكم هائل من الميل الشعبي للدفاع “المفرط” عن الدين. أية تدوينه تطرح تساؤلاً حول جدوى أو المنطق أو الغاية من طقس ذي طابع ديني أو تناقش صحة تفسير ديني تحول بفعل التوارث إلى “ثوابت”، تجد بدلاً من المدافع 10 مدافعين، ومنهم من يصعد النقاش إلى ساحات المحاكم في ما يعرف بـ”قضايا ازدراء الأديان”. ازدراء الأديان المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (منظمة حقوقية) أشارت في فبراير (شباط) عام 2022 إلى أنه منذ بداية عام 2021 نظر القضاء المصري ثلاث قضايا على الأقل تتعلق بـ”ازدراء الأديان” و”الإساءة إلى الإسلام”، وانتقدت المبادرة ما سمته بـ”حلقة من سلسلة الملاحقات والمحاكمات للمواطنين في سياق التضييق على حرية التعبير في شأن عدد من القضايا التي تعد ماسة بالسائد من تفسيرات للنصوص الدينية عبر الإنترنت، وذلك باستخدام اتهامات فضفاضة وغير دستورية، منها تهمة ازدراء الأديان الواردة في قانون العقوبات، والاعتداء على قيم الأسرة المصرية والمجتمع الواردة في قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات”، محذرة من أن مثل تلك القضايا من شأنه أن ينال من حرية الرأي والإبداع والانتقاد. الكاتب طارق حجي كتب رداً على سؤال “هل مصر دولة مدنية؟”، قائلاً “مصر دولة مدنية إلا كثيراً، وهي في الوقت نفسه دولة ثيوقراطية بدرجة عالية ولكن باستثناءات قليلة”، وما سرده حجي من مواد في الدستور اعتبرها تأخذ مصر إلى حضن الثيوقراطية، وأخرى في الدستور نفسه تأخذها إلى عوالم الدولة المدنية، يؤكد أنها لا هي بالمدنية ولا هي بالدينية. حجي قال إن “الأمانة الفكرية تحتم الإشارة إلى نموذجي تركيا وتونس اللتين تحولتا إلى دولة مدنية شبه كاملة، ثم حدث تراجع في هذا التحول. والسبب أن التحول إلى دولة مدنية كان بقرارين فوقيين من كمال أتاتورك في تركيا والحبيب بورقيبة في تونس، وهو ما يضاعف من تعقد الصورة، لأنه يعني أن التحول إلى دولة مدنية بقرار فوقي ومن دون ظهير شعبي قد يتسبب في مراحل لاحقة بانتكاسة تاريخية”. المزيد عن: مصرالإخوان المسلمونثورة ينايرالإسلام السياسيالأزمة الاقتصاديةالحكم الديني 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post قراءة فحوص سرطان الثدي آخر إسهامات الذكاء الاصطناعي next post الإباحية المزيفة… الذكاء الاصطناعي أيضا يبتز النساء You may also like شاهد : من هو “حزب الله”؟ متى وكيف... 22 نوفمبر، 2024 إيطاليا تحمل “حزب الله” مسؤولية إصابة 4 جنود... 22 نوفمبر، 2024 إسرائيل تنهي الاعتقال الإداري لمستوطني الضفة 22 نوفمبر، 2024 لماذا أصدرت “الجنائية الدولية” مذكرة توقيف ضد نتنياهو... 22 نوفمبر، 2024 الفنون في الجزائر… حضور شكلي وغياب تعليمي 22 نوفمبر، 2024 تعطيل أنظمة تتبع المواقع يكبد الشركات الإسرائيلية خسائر... 22 نوفمبر، 2024 هل لا يزال الضيف حيا؟ 22 نوفمبر، 2024 «إسرائيل في ورطة»… تداعيات قانونية وسياسية لمذكرة اعتقال... 21 نوفمبر، 2024 “تقدم كبير”.. آخر التطورات بشأن مفاوضات لبنان وإسرائيل 21 نوفمبر، 2024 إطلاق نار كثيف في مقر إقامة رئيس الاستخبارات... 21 نوفمبر، 2024