الشاعر شوقي أبي شقرا (دار نلسن) ثقافة و فنون عبده وازن يكتب في وداعه: شوقي أبي شقرا شاعر الحداثة في تجلياتها اللبنانية by admin 11 أكتوبر، 2024 written by admin 11 أكتوبر، 2024 80 رحل عن 89 سنة بعدما شارك في ثورة مجلة “شعر” الرائدة وأسس مدرسة خاصة اندبندنت عربية / عبده وازن .لئن بدا صوت الشاعر شوقي أبي شقرا مختلفاً عن سائر الأصوات الشعرية المعاصرة منذ كتابه الأول “أكياس الفقراء” الذي صدر عام 1959، فإن ذاك الاختلاف لم يتجلَ إلا في كتابه الثالث الذي حمل عنواناً مثيراً هو “ماء إلى حصان العائلة”. في ذلك الكتاب تحرر شوقي كلياً من آثار الشعر الحر الذي برزت تفاعيله وإيقاعاته في كتابيه الأول والثاني “خطوات الملك”. ولم يكمن الاختلاف فقط في خروج الشاعر عن النظام التفعيلي، بل في تأسيس لغة لا عهد للشعر العربي بها عمادها معجم لبناني خالص ومفردات قروية أو ريفية وتراكيب فيها من البساطة ما فيها من الحذاقة والمهارة. ولم تقتصر فرادة أبي شقرا على المنحى اللغوي فقط بل تعدته إلى النسيج الشعري نفسه ومادته، فإذا الشعر حقل اختبار للمخيلة وسحرها وسلسلة من المفاجآت والصور الطريفة والأخيلة والأوهام والظلال… بينما كان الشعر العربي يشهد في مطلع الخمسينيات وفي الستينيات معركة “الحداثة”، تخوضها مجلة “شعر” ومجلة “الآداب”، كان شوقي أبي شقرا خارج السجال القائم وخارج الصراع الفكري والأيديولوجي الذي ساد تلك الحقبة الشعرية. وكان في مجلة “شعر” نفسها طائراً خارج سربه كما عبر مرة يوسف الخال في كلامه عنه. شعراء مجلة “شعر” وشوقي أبي شقرا في شمال الصورة جلوساً (دار المجلة) لم يمل أبي شقرا في غمرة تلك “المعركة” إلى التنظير الشعري ولا إلى الهموم الحضارية ولا إلى القضايا السياسية والأساطير والمبادئ والأفكار التي شغلت معظم شعراء الحداثة، سواء كانوا ينتمون إلى مجلة “شعر” أم إلى مجلة “الآداب”، المجلتين اللتين كانتا على خلاف واختلاف جذريين. ولم يسع أبي شقرا إلى الابتعاد عن المناخ الذي نشأ فيه، وفيه تلقن أصول الجمالية التي وسمت “لبنان الشاعر” على حد تعبير صلاح لبكي. لكنه سرعان ما تمرد على تلك الجمالية الراسخة من غير أن يتخلى عن لبنانيته ولا عن ريفيته، بل إن تمرده لم يكن إلا تحديثاً للحس والوعي الجماليين. راح أبي شقرا يشعرن قصيدة النثر، ممعناً في التخيل حتى الغرابة والفانتازيا والدهشة والطرافة. المعجم اللبناني حافظ أبي شقرا طوال مساره الشعري، على معجمه اللبناني الصرف، القروي و”الأهلي”. غير أن لبنانية هذا المعجم الذي يتحرك الشاعر ضمنه لا تعني انغلاقاً داخل دلالاته الجاهزة والراسخة، فالمعجم اللبناني لم يكن إلا ذريعة للانطلاق إلى أفق شعري رحب وواسع، رحابة المخيلة ووساعتها. وعرف أبي شقرا كيف يرتقي عبر مخيلته تلك، بالمفردات والتعابير محررا إياها من مخزونها الشعبي. فإذا المعجم الريفي أشبه بالمنجم الذي ينتقي الشاعر منه مفرداته وألفاظه ليصوغها مرة تلو أخرى بحسب مزاجه الشعري وسريرته وخياله وإحساسه وحدسه. ولعل ما يميز هذا المعجم اللبناني كونه مرتبطاً بالذاكرة الأولى، الذاكرة الطفولية التي يسترجعها الشاعر ليعيد تركيب العالم من خلالها. ولا غرابة أن تتألف الذاكرة الصافية والنضرة دوماً من مفردات وصور وأخيلة وأحلام مغرقة في فطريتها وبراءتها وطرافتها وإبهامها في أحيان. ديوان للشاعر (دار الريس) ظل شوقي أبي شقرا يصر على التجدد خلال مساره، ولكن طبعاً من ضمن عالمه ومناخه اللذين تميز بهما، وعبر تقنيته الحادة والمرهفة التي وسمته. بل ظل يمعن في غرابته وعبثه وبلا هوادة، مسترجعاً ذاكرته الطفولية ليشحذ مخيلته ويحلق ويرتفع. ويشعر القارئ في أحيان أن الشاعر يسبقه وأن الشعر يكرج كرجاً فيلهث وراءه ليلتقط ما يتناثر ويتطاير من صور ورسوم وأخيلة وأشكال… وهذه حيلة من حيل أبي شقرا الشعرية فهو لا يدعو القارئ إلى شعره إلا ليوقعه في شركهذي الخيوط المشغولة والمشبوكة برهافة. فالقارئ يشعر أن القصيدة أشبه بالطاحونة التي يحركها الهواء فلا تتوقف، أو أشبه بالشاشة التي ترتسم عليها صور (متحركة) ووجوه وأطياف وظلال وصور. ولعل الشاعر أنسي الحاج أصاب حين تحدث مرة عن “الرسوم المتحركة” في شعر أبي شقرا معتبراً إياها “ظاهرة وحيدة من نوعها في الشعر العربي”. وقصائد أبي شقرا هي فعلاً هكذا، وأكثر. إنها تذكر أيضاً بذاك الصندوق العجيب، “صندوق الفرجة” الذي يعرفه أبي شقرا جيداً، وربما بمسرح الظل الذي تتشوه على شاشته الأحجام والقامات وكأنها اكتسبت أبعاداً أخرى. في إحدى قصائد، يدخل الشاعر في مماحكة مع قلمه، فإذا القلم ذو قرنين يشده بهما فيشده قلمه إلى الخلف فيسحبه ويمتشقه… الديوان في طبعته الثانية (دار نلسن) وفي قصائد أخرى شديدة الطرافة، يتخيل الشاعر نفسه يصعد من “ياقوتة الفوضى” ومن “الخطيئة الزمردة”، فيكتشف نفسه “صحناً يدور في الفضاء” أو شحاذاً “واسع الكف” ويدرك أن الخوخة أمه والتوتة أخته واللوزة عرابته…. وما أكثر تلك الصور والجمل الممعنة في الغرابة والسخرية والحذلقة الجميلة. وشعر أبي شقرا يصخب بها صخباً حتى إن القارئ يحس أنه عاجز عن التقاطها جميعاً وعن أسرها سواء عبر عينيه أو مخيلته! قد تكون هذه الصور ناجمة عن موقف الشاعر الهجائي (الساتيري) من العالم وعن نظرته الساخرة التي تشوه الأشياء قصداً في هدف بنائها بناء مختلفاً وغير منطقي أي بناء تخييلياً وفانتازياً. اما سيزيف بطل الأسطورة الإغريقية الذي شغل الشعر العربي الحديث فيصبح لديه كائناً آخر إذ يشبهه بـ”راقصة باليه” ويجعله “يمشي على البحار” بـ”حذائه الخفيف”… صورة سيزيف هنا كافية وحدها لإدراك سر شعرية أبي شقرا المشبعة بالغريزة الطفولية وبالفطرة الذكية والثاقبة. إنها الغريزة القادرة على النفاذ إلى عمق المخيلة بغية إطلاق الصور العجيبة والمجازات البديعة، “ها أنا وحدي كسنجاب/ ورجلاي احتضار” يقول الشاعر. هذا المقطع الشعري استوقف الناقدة خالدة سعيد في أحد مقالاتها في مجلة “شعر”. “الإبن العائد” لعل الشاعر الذي يرجع رجوع “الابن العائد” إلى ماضيه إنما يحاول أن يجعل من ذاك الماضي “ميتولوجيا” خاصة، فيها كثير من اللعب والقفز والشيطنة والجرأة والطرافة والهلسنة البصرية. والطفولة المستعادة ليست في جوهرها إلا شهادة على الذكرى، على الماضي الذي كان والذي يحياه الشاعر ولكن بإحساس الشاعر الذي فقده، الشاعر الذي يهدده الزمن والذكرى، فيعيد إحياء ماضيه مدركاً أن العمر كان أو هو أشبه بالكذبة الجميلة، أو الخدعة الجميلة. ومن هنا تنبع المأسوية المضمرة في هذا الشعر الفريد الذي يكتبه أبي شقرا ويفرض سحره وطرافته عبر “المخادعة”، في معناها المجازي. فوراء تلك الفكاهة والسخرية تكمن مأساة فعلية، قد تكون هي الدافع الأول إلى الهرب عبر الكتابة وإلى الكتابة انتقاماً للحياة ومنها. ديوان شعري (دار الجديد) كان أبي شقرا كما أشرت، يسعى إلى التجدد كتاباً تلو كتاب، وبدت لعبته الشعرية وتقنيته ولغته تتبلور وتنفتح على جو من المغامرة السافرة والمفتوحة. وقد ازداد الشاعر جرأة وجسارة، لاسيما في كتبه الأخيرة، فبدا وكأنه يمضي في كسر المنطق اللغوي والمجازي خالقاً منطقه الخاص القائم على الإيجاز والهذيان والتحريف. ولم يتحاش شرك المجانية وربما قصدها قصداً ليؤجج الغرابة والطرافة وذاك “الحس المدهش”. فالمجانية على رغم مبالغتها لا تسيء إلى القصيدة ولا إلى جوها بل هي في أحيان تتخطى وظيفتها لتصبح مجانية مطلقة. وحيال ذاك الإمعان في كسر الفصاحة التقليدية واستنباط شبكة جمالية ومجازية مختلفة، يمعن الشاعر في التجريد الواعي وفي الحذف والصهر والسبك حتى لتقع بعض المقاطع في الإبهام: “يسبح رحيقي تحت تنورة الخشونة” أو: “البطء والبحيرة، وألا تجيء السمكة، بل أنت….”، وذاك إبهام شبه مقصود يعيه الشاعر ويعي هدفه. وإذا استعرضنا بعض الاستعارات المبهمة لدى أبي شقرا لأدركنا أن الشاعر يسعى إلى إبهار القارئ عبر إيجاد علاقات غريبة وطريفة بين عناصر تلك الاستعارات (كاراج الضعف، زبدة الخشب، ساقية السهاد، فندق الهاوية، بنطلون الصيف، مرتبة السمنة….). إلا أن السياق الشعري والتخييلي الذي ترد فيه هذه الاستعارات يركزها ويوضح دلالاتها المفترضة. ويعمد الشاعر في بعض القصائد إلى نوع من الاستطراد المجازي والصوري مركزاً على أحرف العطف والجر، فإذا الجمل تتوالد من الجمل وإذا حقل الصورة الواحدة يتسع في أحيان لحركة صورية أو إيقاع صوري. وقد يخيل للقارئ في أحيان أن الجمل تتوالد من انقطاعها، بعضها عن بعض. وما يبرر ذاك الانقطاع، انتقال التعابير والمفردات والمجازات من حقل إلى حقل ومن جو إلى جو. لكن الشاعر يدرك تماماً ما يريد وما يبغي وما يبصر وما يتخيل وما يحذف وما يواري وما يكشف، فهو سيد حرفته الشعرية وتقنياته. وفي أحيان يتجاهل قارئه فلا يمهد له الطريق ليتبعه، فيجد القارئ نفسه في متاهة من الصور والألفاظ والجمل التي تظهر كأنها ناقصة نحوياً. الشاعر يحذف الشاعر الفعل حيناً جاعلاً الجملة الفعلية جملة اسمية (مرة رغيف العفونة، ولا أبلع الفساد)، أو هو يعتمد بعض التراكيب النحوية الغريبة (ونحن الفقراء قرفصاء….). القصيدة الجديدة شاعر الحداثة بتجلياتها اللبنانية (دار نلسن) دخل شوقي أبي شقرا عالم “الشعر الحر” لا سيما في ديوانيه “أكياس الفقراء” 1959 ثم ديوانه الثاني “خطوات الملك” 1960، من باب آخر هو باب المدرسة اللبنانية التي كانت تجلت عبر أعمال الرعيل الثاني والأخير من الشعراء النهضويين اللبنانيين. وكان انضم للتو إلى “حلقة الثريا” التي حاولت أن ترث هذه المدرسة وتبلورها قبل أن تتبدد ويفترق شعراؤها، وكان من بينهم جورج غانم. ولم يلبث شوقي أبي شقرا أن انضم إلى مجلة “شعر” ثم إلى هيئة تحريرها وأصدر ديوانه “خطوات الملك” عن الدار التي تحمل اسمها. وعندما صدر هذا الديوان رحب به يوسف الخال كل الترحاب وكتب يقول: “حين تقدم مجلة “شعر”‘ شوقي أبي شقرا في”‘خطوات الملك” إنما تقدم شاعراً نداً لمجايليه من الشعراء المعاصرين لا في العالم العربي وحسب بل في العالم كله”. وأضاف واصفاً إياه بالشاعر الذي “تستهويه المغامرة في مجال الفذ والفريد والغريب”. وفي السنة نفسها كتب أنسي الحاج شاعر “لن” ورائد قصيدة النثر العربية دراسة عن هذا الديوان في مجلة “شعر” متناولاً فيها “اللغة البيضاء” و”المزاج البسيط المدهش” و”اللذة البصرية والفنية” التي تتيحها القصائد و”الحيلة” التي يعتمدها شوقي أبي شقرا في صنيعه. وكم أصاب الحاج عندما تطرق إلى التفرد اللبناني الذي تميز به أبي شقرا هذا التفرد الذي لم “يقطع الأسباب بينه وبين الروح الجبلي اللبناني”، على رغم انقطاعه عن “الأدوات المهترئة” التي تكثر عند غالبية شعراء الجبل، وعن التقاليد الريفية اللبنانية، بحسب تعبير الحاج. فالشاعر يكتب بلا هوادة عن العصفور والجدة والرعاة وعن النبات والازهار والنبع والقرميد، وعن الفستق وقوس القزح والحيوانات…. وهذه المفردات تنتمي إلى المعجم القروي اللبناني الذي يشكل عماد تجربة الشاعر. بعد هذين الديوانين هجر شوقي أبي شقرا قصيدة التفعيلة، لكن اللعبة الإيقاعية لم تفارق لغته نهائياً لا سيما في ديوانه الفريد “سنجاب يقع من البرج” (1971). ولعل حنينه إلى قصيدة النثر بدا جلياً في شعره الحر الذي تضمنه ذانك الديوانان. قد يكون شوقي أبي شقرا أكثر الشعراء اللبنانيين “لبنانية”. لكنه في الحين عينه أكثرهم “عربية” وانتماء إلى جماليات اللغة العربية. وقد لا يدرك هذه الناحية إلا القارئ الذي يقدر حقاً أن يقترب من تلك المنابت التي تمتزج فيها العربية والعامية خير امتزاج فلا تنتصر الواحدة على الأخرى، ولا تتراجع الواحدة أمام الأخرى. فاللغة العربية التي كان شوقي أبي شقرا من خيرة ورثتها هي الأرض الصلبة التي تنهض عليها اللغة العامية. واللغة العامية هذه هي ذاكرة تلك اللغة العربية ووجدانها المتوقد. ولعل هذا ما عبرت عنه تجربة شوقي أبي شقرا الشعرية التي كان استهلها عبر الإيقاعات الحرة أو التفاعيل ثم بلورها عبر قصيدة النثر التي لم تستقر على صورة مغلقة أو نسق واحد. غير أن تجربته لا تتفرد في فضائها اللغوي فحسب، بل في ذلك التكوين الشعري المنفتح على الحلمي والطفولي والمشبع بالوجداني والمتخيل. اعمال ابي شقرا الشعرية “أكياس الفقراء” 1959، “خطوات الملك”1960 ، “ماء إلى حصان العائلة”1962 (فاز بجائزة مجلة “شعر”)، “سنجاب يقع من البرج” 1971، “ماء إلى حصان العائلة وإلى القديسة منمن” (طبعة ثانية 1974)، “يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضاً” 1979، “حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة” 1983، “لا ـتأخذ تاج فتى الهيكل” 1992، “صلاة الاشتياق على سرير الوحدة” 1995، “ثياب سهرة الواحة والعشبة” 1998، “سائق الأمس ينزل من العربة” 2000، “نوتي مزدهر القوام” 2003، “تتساقط الثمار والطيور وليس الورقة” 2005، “عندنا الآهة والأغنية وجارنا المطرب الصدى” 2019، “أنت والأنملة تداعبان خصورهن” 2020. المزيد عن: شاعر لبنانيمجلةيوسف الخالانسي الحاجالحداثةالتجديدقصيدة النثرالتفعيلةالجمالية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “فجر يوم جديد” ليوسف شاهين… سينما اليقين المحير next post ماذا حققت جبهات إسناد غزة لـ”حزب الله” ولبنان؟ You may also like محمد علي اليوسفي: كل ثورة تأتي بوعود وخيبات 22 ديسمبر، 2024 سوريا والمثقفون الانتهازيون: المسامحة ولكن ليس النسيان 22 ديسمبر، 2024 حين انطلق “القانون في الطب” غازيا مستشفيات العالم... 22 ديسمبر، 2024 “انقلاب موسيقي” من إيغور سترافنسكي في أواخر حياته 21 ديسمبر، 2024 الإرهابيون أرسلوا رأس الصبي إلى أهله في “الذراري... 21 ديسمبر، 2024 “هند أو أجمل امرأة في العالم” لهدى بركات:... 21 ديسمبر، 2024 جواد الأسدي يسجن شخصياته المقهورة في “سيرك” 21 ديسمبر، 2024 عندما انبهر ترومان كابوتي بالمجرم في “بدم بارد” 21 ديسمبر، 2024 كاتبات يابانيات “متغربات” يتحدين تقاليد السرد العريق 21 ديسمبر، 2024 محمد أبي سمرا يكتب عن: حسن الصباح والإسماعيلية…... 20 ديسمبر، 2024