ثقافة و فنون عبده وازن عن محمود درويش: الغريب يقع على نفسه by admin 11 أغسطس، 2023 written by admin 11 أغسطس، 2023 243 راح محمود درويش منذ الثمانينيات يتحرّر من “الإرث” الوطني والقومي الذي أُلقي على عاتقه في صفته شاعر فلسطين أو شاعر قضية- كما أطلق عليه، لكنه كلما كان يتحرّر من ذلك الإرث كان يبدو أكثر قرباً منه. جريدة المدن الالكترونية صدرت عن دار رياض الريس في بيروت الطبعة الثانية من كتاب “محمود درويش/ الغريب يقع على نفسه” للشاعر والناقد اللبناني عبده وازن، بالتزامن مع الذكرى الـ15 لرحيل الشاعر الفلسطيني، والذي مازالت تجربته الشعرية والحياتية موضع جدل ونقاش، خصوصاً أن دواوينه الأخيرة كانت الأكثر حيوية، على عكس معظم الشعراء الذين يبدأون تجاربهم بحيوية ثم يترهلون… جاء في تقديم كتاب عبده وازن: “قد لا يعني اختيار محمود درويش عنوان الأعمال “الجديدة” للدواوين الأخيرة التي أصدرها تباعاً، أنّ أعماله السابقة أضحت “قديمة”. فالتحوّل الذي طرأ على شعره في مرحلة الثمانينيات، وخصوصاً مع ديوان “هي أغنية، هي أغنية” وما بعده، حمل الكثير من الجديد شعرياً ولغوياً. لا يمكن وصف هذا التحوّل إلا انطلاقاً من دواوين سابقة، انطلاقاً من سابقة مثل “ورد أقل” و“أحد عشر كوكباً” وسواهما. قد تكون المرحلة الأولى مرحلة “قديمة” نظراً إلى العلاقة الشعرية المباشرة بالقضية الفلسطينية التي كان محمود درويش واحداً من أبرز شعرائها. حينذاك كانت القصيدة تتباهى بالتزامها السياسي مخاطبة “الجمهور” محرضة إياه على النضال. وترافقة هذه القصيدة مع نشوء الكفاح المسلّح وأضحت المعادل الشعري له، تمتدح البطولة والحماسة وتدعو إلى الشهادة فداء للأرض المسلوبة. وإطلاق صفة “القديمة” الآن على دواوين درويش الأولى (أوراق الزيتون، عاشق في فلسطين، آخر الليل…) يعني أكثر ما يعني أنها دخلت “تاريخ” المقاومة من باب القصيدة وذاكرة “الجماعة” شعرياً، علاوة على أنها تمثّل “بدايات” محمود درويش حين كانت “شعريته” طرية العود، فطرية وتلقائية. حينذاك كان الموقف الشعري رد فعل على الموقف الوطني وعلى المآسي المتعدّدة. وكانت القضية تسبق الشعر وتصنعه وكان الشعر دوماً وراءها، ويتأثر بها أكثر مما يتأثر فيها. حينذاك أيضاً لم تكن “أدوات” محمود درويش قد نضجت ما يكفي ولا لغته ولا ثقافته الشعرية. هكذا تبدو “الأمال الجديدة” حديثة، لا في المفهوم الزمني فحسب وإنما شعرياً أيضاً. إنها أعمال جديدة في المعنى “الحداثوي” كذلك، كونها لا تتوانى عن ترسيخ “حداثة” محمود درويش التي لا تشبه حداثة أخرى، لا حداثة بدر شاكر السياب ولا حداثة أدونيس ولا أنسي الحاج ولا سعدي يوسف. على أنّ محمود درويش ما زال يصرّ على كتابة قصيدة التفعيلة ولكن محرراً إياها من إرثها الثقيل ورتابتها المضنية، بل مازجاً بينها وبين “فضاء” قصيدة النثر من غير أن ينحاز إلى الأخيرة انحيازاً شكلياً أو تقنياً. لعل الخصال التي تتميز بها قصيد درويش الجديدة هي ايقاعية في ناحية منها. فالايقاع لديه تخطّى النظام التفعيلي المغلق مازجاً بين الايقاع الداخلي الذي يصنعه تجانس المفردات والحروف والتقفية الداخلية، الايقاع الخارجي الذي تصنعه التفاعيل والقوافي. إلا أن البنية الايقاعية لدى درويش تعرف حالاً من الرحابة نادراً ما عرفها الشعر التفعيلي الجديد. إنها رحابة اللغة “الدرويشية” التي تكسر العلاقة ما بين المعنى والشكل وما بين الايقاع ورموزه لتصبح لغة مشرّعة على “الشعري” في ظواهره المتعدّدة، مشهدياً وروحياً، تجسيماً وتجريداً، واقعياً وميتافيزيقياً، ذاتياً وجماعياً، جمالياً وفكرياً. راح محمود درويش منذ الثمانينيات يتحرّر من “الإرث” الوطني والقومي الذي أُلقي على عاتقه في صفته شاعر فلسطين أو شاعر قضية- كما أطلق عليه، لكنه كلما كان يتحرّر من ذلك الإرث كان يبدو أكثر قرباً منه. فالقضية التي كانت مأساة الجماعة أصبحت أيضاً مأساة الفرد، والمأساة التاريخية أضحت كذلك مأساة ذاتية. ولم يبق من القضية سوى الجوهر الحارق كالجمر. أما شاعر فلسطين فأصبح شاعر الوجود الذي لم يتخل عن مأساته في يأسه ورجائه، في انتمائه ولاانتمائه، وأصبح أيضاً الشاعر الحالم والرائي، المألوم والمجروح، الباحث أبداً في عتمة اللغة عن ضوء ساطع، وفي سديم اللاوعي عن منفذ يطلّ على شمس الحياة. يصعب الآن فعلاً تسمية محمود درويش “شاعر فلسطين” أو شاعر القضية أو الأرض وسواها مما يطلق عليه من كنايات وصفات. أصبح الشعر أبعد من القضية التي انطلق منها وحملها في روحه، أصبح مقدم القضية بعدما كان وراءها. ولم يعد يحتاج إلى أن يحتمي بها ليقدّم نأياً وتغرباً واغتراباً، فهي أضحت بمثابة الجوهر الكامن في عمق التجربة الشعرية والانسانية على السواء. قد يكون محمود درويش شاعر الأرض لكنه في المعنى الوجودي والميتافيزيقي وليس الجغرافي أو الوطني فحسب. والأرض تشهد في شعره ولادات عدّة مثلما تشهد ميتات عدة، إنها أرض الغربة كمان هي أرض العودة، أرض الحياة كما هي أرض الموت. إنها الأرض التي تلدها اللغة أولاً وأخيراً، وحقيقية ومتخيّلة في آن واحد. قراءة محمود درويش في “الأعمال الجديدة” تفترض عودة إلى الأعمال السابقة التي برزت في مرحلة الثمانينيات. هناك ولا شك خيط متين يربط بين هذه الأعمال جميعاً في ما عرفت من تحولات جذرية. فالشاعر الذي خرج من حماسة البدايات استطاع أن يجعل من اللحظة التاريخية لحظة شعرية بامتياز، وتمكّن كذلك من اخضاع الظرف السياسي للبعد الجماعي. إنه في معنى ما انتصر للشعر حين كان الانتصار هو للتاريخ، وانتصر للقصيدة عندما كان الظرف السياسي هو المنتصر. ومضى درويش في تجربته غير آبه لما تركت قصائده الأولى من أثر في الذاكرة الفلسطينية والنضال الفلسطيني. كان عليه ان يختار، إما أن يكون شاعراً جماهيرياً أو أن يكون شاعر حقيقياً. واختار محمود درويش الشعر دون أن يتخلى عن ماضيه أو ينكر هذا الماضي كما فعل شعراء كثيرون. وعندما اندلعت “حرب الحجارة” كان محمود درويش الأقل حماسة وانفعالا كشاعر، فلم يكتب إلا ما يجب أن يكتب، بهدوء وتروٍّ وجمالية، فيما تراكمت قصائد الحجارة محرضة الأطفال من بعيد، على الموت استشهاداً في مواجهة الآلة الاسرائيلية القاتلة. لكن القصائد المنفعلة والحماسية سرعان ما ماتت مثلما ماتت القصائد السياسية الكثيرة التي رافقت الهزائم العربية المتوالية مرافقة انفعالية وسطحية. لم يعد قراء محمود درويش الحقيقيون يبحثون في أعماله الجديدة عن حضور فلسطين فقط أو عن تجليات قضيتها. فالقضية أصلاً باتت مدعاة للقنوط وربما لليأس بعدما أضحت على مفترق المتناقضات. أصبحت القضية في شعر محمود درويش قضية في المطلق، تعني الفلسطيني مثلما تعني كل قراء الشاعر عرباً وأجانب. ولا غرابة أن يلقي شعره المترجم إلى الفرنسية والانكليزية والألمانية وسواها الترحاب الكبير كشعر يخاطب الانسان والجماعة أياً كانا وحيثما كانا. وعندما شرع محمود درويش في ترسيخ “حداثته” الشخصية بدا كأنه يبني هذه “الحداثة” على صخرة الثقافة الشعرية الشاملة. وقد لا يجد القارئ أصداء داخلية للشعر العالمي، لدى أي شاعر عربي مثلما يجدها لدى محمود درويش. لكن الشاعر عرف كيف يجعل الأصداء تضمحل في صنيعة البهي وكأنها ترجيع لذاكرته الشخصية. ولعل هذه الخلفية الثقافية المتقاطعة مع “ملكة” محمود درويش الشعرية هي التي جذّرت حداثته في قلب الشعرية الحديثة. و”حداثة” درويش هي أبعد من أن تُحدّ في مظاهر أو معايير معينة، جاهزة أو غير جاهزة. إنها الحداثة الحرّة والمتفلته من أي قيود أو شروط. حداثة لا حدود لها لأنها حداثة شاعر طالع من رحم التجربة، حيث تنصهر الفطرة الطبيعية في الشعرية المكتسبة وحيث تذوب أنا الشاعر في بوتقة الألم الشخصي والمأساة الجماعية. ولعل القضية التي أعطت محمود درويش الكثير، أخذت منه الكثير أيضاً، ألا يحق له أن يكون شاعراً خارج القضية؟ ألا يحق لقرائه أن يقرأوه كذلك بعيداً من سطوة القضية؟ هذا ما جعل الشاعر نفسه يصاب بالحيرة والتململ، غير أنه لم يلبث أن خرج من أسر القضية ليكون في الحين عينه شاعرها ولكن من بعيد. والبعد هنا اقتراب أكثر مما هو ابتعاد لأنه حفر في عمق القضية الذي هو عمق مأساة الوجود. كم تحتاج أعمال محمود درويش الجديدة إلى قراءة شاملة وعميقة تستكشف خصائصها وميزاتها، اللغوية والايقاعية والجمالية. فالكثير من هذه القصائد عصيّ على التصنيف “النوعي” أو “المدرسي”. إنها قصائد جميلة وأكثر من جميلة. قصائد الحياة وما بعد الحياة، وقصائد الموت وما وراءه، قصائد الحلم واللاوعي، قصائد الواقع وما فوقه، قصائد توفق بين اتجاهات شتى لتصنع شعريتها الفريدة، الحية والنابضة. ثم ماذا عن لغة محمود درويش الهادرة كالنهر؟ ماذا عن صوره الشعرية التي تتجاوز المفهوم البياني الجاهز؟ ماذا عن إيقاعاته التي لا تميّز بين وقع الحروف والمفردات والجمل ووقع التفاعيل والقوافي. (…) 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post تلفزيون الواقع على مشرحة سينما قاسية دفاعا عن نفسها next post ساطع نور الدين يكتب عن : عندما يطل الاسد من الخرابة السورية You may also like استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024