ثقافة و فنونعربي “صناعة المقدس”… لماذا يخرج الآلاف حزنا لرحيل الزعيم؟ by admin 16 سبتمبر، 2022 written by admin 16 سبتمبر، 2022 11 عملاً بمبدأ “اذكروا محاسن موتاكم” أو حفاظاً على الوحدة الوطنية أو درءاً للشكوك بعد غياب “القائد – الرمز” اندبندنت عربية \ أمينة خيري صحافية طالما خرجت الجماهير الغفيرة باكيةً نادبةً وفاة الزعيم والقائد والرمز. الآلاف بل الملايين التي تخرج عن بكرة أبيها من بيوتها لتصطف والدموع تترقرق في عيونها على جانبي مسار القائد في رحلته الأخيرة وتلقي على موكبه وردات ملونة، أو تلك التي تركض خلف الجثمان وهي تصرخ بعلو الصوت وتحاول أن تلقي بأجسادها على جسد الزعيم المسجى، أو تطل من النوافذ والشرفات وهي تنتحب وتولول وتناشده أن يعدل عن قرار الرحيل ويبقى معها. صخب وسكون جموع صاخبة وأخرى ساكنة وثالثة تتأرجح بين الصراخ والكمون، تختلف الدول وتتراوح الثقافات وتتناقض عادات الموت وتقاليد الحداد ويبقى الحزن الجمعي موحداً بين الجماهير الغفيرة، لكنه ليس حزناً مستنسخاً متساوياً في العمق متطابقاً في مقدار الصدق وماهية الغاية وحقيقة المحرك. ما حرك هذه الجماهير الغفيرة في مدن بريطانية عدة للنزول من بيوتهم والتوجه لمقار الإقامة الملكية المختلفة لوضع باقة زهور أو ترك رسالة رثاء أو إشعال شمعة، وكذلك لتصوير أجواء “موت الملكة” وربما “سلفي الحداد” في أجواء الكرب مع خلفية الاكتراب، متعدد الأسباب وإن بقي الحزن الجمعي سيد الموقف. موقف البريطانيين والسياح الذين تصادف وجودهم هناك في تواترهم المستمر منذ إعلان وفاة الملكة إليزابيث الثانية على بوابات القصور الملكية، بما في ذلك القصور التي لم تطأها قدماها على مدار عقود، يؤكد أن حالاً من الحزن العام تلف المكان، لكن يصعب بل يستحيل تحديد ماهية الحزن ودوافعه لدى كل منهم. تململ حرج صحيح أن بعض الأصوات تتململ سراً من اقتصار البث في المحطات الإذاعية البريطانية على الألحان الحزينة والأغنيات الهادئة وعدم بث أية أعمال كوميدية على التلفزيون، وكذلك تعطيل الفعاليات الرياضية “لا سيما أن البريطانيين يمرون أصلاً بأوقات عصيبة جداً اقتصادياً”، لكن المزاج العام في بريطانيا حزين ويلفه الصمت الكئيب. الصمت الكئيب شكل ثقافي من أشكال الحداد الجمعي الذي توجه إلى القصور الرئاسية لا لالتقاط “سلفي” أو لتوثيق وجوده في تلك اللحظات المصيرية للبلاد، ولكن لشعوره بحزن عميق كبير وحقيقي. الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم يتحدث عن علم اجتماع الموت في كتابه “الأشكال الأولية للحياة الدينية” فيقول، إنه عندما يموت شخص ما تشعر المجموعة التي ينتمي إليها بنوع من الخسارة وقلة الشأن، ولمجابهة هذا الشعور يتجمعون معاً ويؤلب هذا التجمع المشاعر الجماعية فتجد المجموعة نفسها منخرطة في حال شبه متطابقة من الحزن سواء كان ساكناً أو صاخباً. جثمان الراحلة الملكة إليزابيث الثانية شهد في مسيرته الأولى من “بالمورال” إلى “إدنبرة” آلاف الهواتف المحمولة توثق الحدث الجلل الحزين مع طأطأة الرؤوس أثناء مرور النعش إجلالاً للموت وتبجيلاً للملكة التي رحلت. لماذا خرج الآلاف؟ أما لماذا خرجت هذه الآلاف؟ فالإجابة المنطقية هي أنها استجابة للحزن، لكن تظل هذه الاستجابة أمر جدير بالبحث لأن حجمها ليس واحداً، ومفهوم الحزن ليس كونياً. يرى بعضهم أن الحزن والحداد لرحيل زعيم أو قائد أو رمز وثيق الصلة بفكرة احترام السلطة، لكن حتى “احترام السلطة” مسألة نسبية تختلف باختلاف الثقافات والعادات حتى في بريطانيا نفسها حيث يسود الحزن ويعم الحداد، فإن “احترام السلطة” لم يقف حائلاً يوماً أمام انتقاد السلطة سواء الملكية أو السياسية. يشار إلى أن استطلاعاً للرأي أجرته “آي تي في نيوز” البريطانية عام 2012 أشار إلى أن نصف البريطانيين يعتقدون أن بريطانيا تغيرت للأسوأ في عهد الملكة إليزابيث. وقال 47 في المئة أن بريطانيا لم تعد مكاناً جيداً كما كانت قبل حكمها. وفي أبريل (نيسان) الماضي، أشار استطلاع للرأي أجرته “يوغوف” (مؤسسة تسويق وقياس رأي عام وتحليل معلومات بريطانية) إلى تضاؤل حجم الدعم الذي تحصل عليه العائلة المالكة البريطانية على عكس التأييد الكبير الذي ظلت تحظى به لعقود طويلة. الاستطلاع الذي أجري بين شهري أبريل ومايو (أيار) الماضيين، أشار إلى تزايد عدد البريطانيين المرجحين كفة الديمقراطية على التقليد والتراث، هذه النتائج والنسب المئوية تعد في ثقافات أخرى بمثابة عدم احترام للسلطة، لكن حال الحزن الجارف والحداد العام يشيران إلى أن انتقاد السلطة لا يعني بالضرورة عدم الحزن على رحيلها. وجوه الحزن المتناقضة رحيل الملكة ذكر العالم بالحزن الجمعي ووجوهه المتعددة وربما بالغة التناقض، مشهد المصطفين على جانبي الطريق طيلة المسافة من “بالمورال” إلى “إدنبرة”، التي استغرقت نحو ست ساعات طغى عليها الصمت الحزين القاتل، الصمت الذي ذكّر مصريين وعرباً بالصخب الحزين الرهيب الذي صاحب وفاة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. بعد أيام قليلة وتحديداً يوم الـ 28 من سبتمبر (أيلول) الجاري تحل الذكرى الـ52 لرحيل “الزعيم”، وأقل ما يمكن أن يوصف به ذلك اليوم البعيد هو الصخب، صراخ وبكاء وولولة لا في مصر وحدها، بل في عدد من الدول العربية. لم تتحمل الجماهير رؤية نعش بطلها الراحل فحاولت اختطافه غير مرة (أ ف ب) من عاصر الجنازة الشعبية المهيبة أو شاهدها في الأفلام الوثائقية يعرف أن تفاصيل المشهد كانت غير مسبوقة، سارت الجنازة وفيها الجثمان كما كان مقرراً لها بضعة أمتار قبل أن تذوب في بحر من المصريين أتوا من كل حدب وصوب، ووصل الأمر لدرجة محاولة بعضهم “خطف” النعش، وهو ما فسرته صحف اليوم التالي بأن “الجماهير لم تتحمل رؤية نعش بطلها فحاولت اختطافه غير مرة على أمل أن يكون الجسد ما زال على قيد الحياة”. مشاهد البكاء والصراخ والدموع في شوارع القاهرة ونوافذها وشرفاتها كانت حقاً مروعة، واللافت أن جنازات موازية نظمت في عدد من مدن العالم لا سيما في المنطقة العربية، هتافات هادرة بأصوات هزت أرجاء الشوارع ما زال قطاع من المصريين يذكرها، “ياجمال ياحبيب الملايين، رايح فين وسايبنا لمين؟”، و”لا إله إلا الله، ناصر حبيب الله” وغيرها، كلها يوثق شكلاً من أشكال الحزن الجمعي الهادر على عكس حزن باقات الورد والرؤوس المطأطئة والشموع الموقدة وبطاقات الرثاء. دعامة الشعب على الرغم من الفارق الرهيب في درجة الصخب، فإن كلا الحزنين على رحيل رمزين للسلطة يمكن وصفه بـ”الاختياري”، في ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، أعلنت كوريا الشمالية رحيل “دعامة الشعب” الزعيم كيم جونغ – إيل. المصدر الوحيد للخبر كان “وكالة الأنباء الكورية الشمالية” التي أعلنت أنه “في مقدم ثورتنا يقف الرفيق كيم جونغ – إيل الخليفة العظيم للثورة والزعيم البارز للحزب والجيش والشعب”، لكنها أشارت في الوقت نفسه إلى أن خليفته وأصغر أبنائه “الرفيق” كيم جونغ – أون هو “الدعامة الروحية والعقائدية لشعبنا”، خبر الرحيل قرأته مذيعة غارقة في دموعها وتطالب الشعب بالالتفاف حول الزعيم الجديد. هستيريا الحزن قبل تواتر مشاهد الحزن الجمعي أو بالأحرى الهستيريا الجماعية للشعب “المنتحب” على رحيل “الزعيم”، قالت وكالة الأنباء الكورية إن كوريا الشمالية شهدت عدداً من الظواهر الغريبة منذ وفاة الزعيم، “تصدعت الثلوج في بحيرة شهيرة بصوت عال جداً بدا كأنه يهز السماء والأرض”، و”حدث توهج واضح غير مفهوم على قمة جبل شهير” ضمن ظواهر أخرى. في هذا العام نشرت “نيويورك تايمز” مقالة عنوانها “دموع كوريا الشمالية تعكس مزيجاً من العقيدة والثقافة والإكراه”، جاء فيها أن صور الحزن الرهيب المنتشرة القادمة من كوريا الشمالية غير مسبوقة، رجل راكع على قدميه ينتحب وجسده يتأرجح للأمام والخلف، مراهقان يقفان بلا حراك ثم فجأة يركعان على الأرض وينخرطان في البكاء، هستيريا جماعية وحزن شديد ينتابان المواطنين والجنود في العاصمة. مشاهد تذكر الجميع بالحزن الجماعي والحداد الشعبي اللذين سادا كوريا الشمالية عام 1994 حين توفي الجد المؤسس كيم إيل سونغ. كان نيلسون مانديلا رمزاً لقيم كثيرة يخاطب كل منها أو جميعها ملايين البشر (أ ف ب) يشير كاتبا المقال تشوي سانغ هون ونوريميتسو أونيشي إلى أن “صور التعبير المتطرفة عن مشاعر الحزن في الجنازات، حيث النحيب التشنجي والضرب بقبضة اليد وإصدار أصوات عالية مع هز الجسم، جميعها جزء مقبول من الثقافة الكونفوشيوسية الكورية”، وأضافا أنها تصرفات تظهر في جنازات الكوريتين، لكن في الشمالية “تتعاظم ثقافة الحداد بفعل طائفة دينية جعلت من القائد أباً للشعب”. وتابعا أن مثل هذه التصرفات متوقعة في الحزن على وفاة الأب، وعدم الالتزام بهذه التقاليد يكون مدعاة للخزي والعار، لذلك يتمسك بها كثيرون بدافع الغريزة، لكن لا يمكن إغفال عوامل أخرى مثل الخوف من المجهول لدى رحيل “الزعيم الأب” وعدم اليقين من المستقبل، إضافة إلى عامل الإجبار، و”ربما يكون سبب هذا اعتقاد شعب كوريا الشمالية أن عليه أن يتصرف على هذا النحو، أو ربما لأن الأعين تراقبهم، وما حدث أدى إلى شعور الناس بالصدمة أو بالاضطراب بعيداً من نوعية المشاعر التي يحملونها لكيم جونغ – إيل”. منع الضحك يشار في هذا الصدد إلى أن “الزعيم” كيم جونغ – أون ألزم شعبه في ديسمبر الماضي بالحداد لمدة 11 يوماً في مناسبة الذكرى العاشرة لرحيل والده، وشملت إجراءات الحداد منع السكان من القيام بأي شيء آخر غير الوقار، وتم تداول تقارير صحافية حينئذ بأن إجراءات الحداد تشمل عدم تناول المشروبات الكحولية أو الضحك أو القيام بأية أنشطة ترفيهية، كما يمنع البكاء بصوت عال حتى لو توفي أحد أفراد الأسرة أثناء أيام الحداد الرسمي. الحداد عادة يكون رسمياً، أما الحزن فشعبي بامتياز، صحيح أن جوانب منه قد تكون معدة سلفاً أو تسير بحسب سيناريو مكتوب، لكن شتان بين سيناريو مكتوب للحزم في دولة ما، والواقع كذلك الذي عاشه العالم في ديسمبر أيضاً، ولكن عام 2013 فالملايين في مشارق الأرض ومغاربها نظمت جنازات ومسيرات حزناً على وفاة “الرمز” نيلسون مانديلا، ولأنه رمز لمعان وقيم كثيرة يخاطب كل منها أو جميعها ملايين البشر وربما المليارات حول العالم، فقد كان الحزن الجمعي عالمياً. عالمية الحزن لا تنفي عنه سماته السياسية، ولا يخفى على أحد أن الاكتفاء بذكر مناقب المتوفى وإغفال مساوئه أو أخطائه أمر يفعله كثيرون على الرغم من اختلاف الثقافات والشخصيات، وعملاً بمبدأ “اذكروا محاسن موتاكم” يؤمن كثيرون بأنه أمام هيبة الموت وجلاله لا يجوز إلا ذكر المحاسن، بل وأحياناً المبالغة في فعل ذلك سواء من منطلق هيبة الموت أو جلاله أو حفاظاً على الوحدة الوطنية ودرءاً لخطورة الفرقة وعدم اليقين بعد رحيل “الزعيم” أو “الرمز” أو “الرئيس”. صناعة القديس رحيل الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن لم يكن عادياً، فقد اغتيل الرئيس الـ16 للولايات المتحدة الأميركية في أبريل عام 1865، وهو الاغتيال الذي يشير باحثون إلى استخدامه لتحويل لينكولن من رئيس مثير للجدل إلى شخصية شبه مقدسة في الثقافة الأميركية. تحت عنوان “الحداد وصنع رمز مقدس: دوركايم واغتيال لينكولن” كتب أستاذ علم الاجتماع الأميركي في جامعة جورجيا باري شوارتز أن طقوس الجنازة غير العادية التي أقيمت للينكولن أدت إلى رفع وتغيير مكانته السياسية تماماً، فعلى الرغم من عدم رضا كثيرين عن سياساته في ما يتعلق بالحرب وخطط إعادة الأعمار وغيرها، فإن الأجيال التالية أصبحت تنظر إليه وكأنه رمز شبه مقدس. ويعتمد المؤلف على نظريات دوركايم التي صاغها حول الدين والموت والعلاقة بين الإيمان والطقوس والتوافق والتضامن، وهي المفاهيم التي يتم الدق عليها في حالات عدة من الموت، لا سيما موت الزعماء والقادة والرموز. سواء كان الحداد الرسمي والحزن الشعبي بدافع الإجبار السياسي أو الوخز الأمني أو التهديد الاجتماعي، أو بفعل المشاعر الحقيقية الناجمة عن رحيل الزعيم الرئيس الرمز، يبقى الحزن الجمعي على شخص لم تقابله الأغلبية المطلقة في حياتها من قريب أو بعيد، وتقتصر معرفتها به على ظهور متكرر على شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر وعناوين الأخبار والصحف أمراً محيراً ولكنه مستمر. في حال الملكة إليزابيث، فإن أجيالاً متتالية لم تر على رأس العائلة الملكية سواها، ولم تعرف ملكاً غيرها، لذلك يبدو الغياب صادماً والرحيل مقلقاً، ويضاف إلى ذلك أن العملات المعدنية والورقية وطوابع البريد والهدايا التذكارية وعدد من واجهات المحلات ومحتويات المجلات والأفلام والمسلسلات التي نمت الأجيال عليها وترعرعت وشابت لا تحمل صورة سواها، وحتى البروفايل الرمادي منزوع الملامح يعرف الجميع أنه لـ”الملكة – الرمز”، لذا فإن الحزن جمعي. المزيد عن: الملكة إليزابيث\جنازة جمال عبد الناصر\زعيم كوريا الشمالية\نيلسون مانديلا\أبراهام لينكون 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post تكريم وفاة الملكة إليزابيث الثانية رسمياً في مجلس العموم الكندي next post كيف غير شامبليون فهم العالم للحضارات القديمة؟ You may also like بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: ماجان القديمة …أسرارٌ ورجلٌ... 27 نوفمبر، 2024 «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد 27 نوفمبر، 2024 محمد خيي ممثل مغربي يواصل تألقه عربيا 27 نوفمبر، 2024 3 جرائم سياسية حملت اسم “إعدامات” في التاريخ... 27 نوفمبر، 2024 سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024