ثقافة و فنونعربي صاحب شرلوك هولمز يحول التاريخ إلى حفلة وعظ طيبة by admin 26 يونيو، 2022 written by admin 26 يونيو، 2022 29 كونان دويل كتب المجلدات “العلمية” لمجرد أن يثير غيظ بريطانيا إذ لم تعد عظمى اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب ذات مرحلة من حياته التي زادت سنواتها في نهاية الأمر على ثمانين عاماً، قرر الكاتب الاسكتلندي آرثر كونان دويل أن يجعل من نفسه مؤرخاً بعد أن ضاق ذرعاً وغيرةً بالنجاح الذي حققه بطله الأسطوري شرلوك هولمز على حسابه، فـ”قتله” في رواية أرادها أن تكون خاتمة حكاياته، لكنه سرعان ما “أحياه” من جديد مضطراً أمام ضغط قرائه، لكننا هنا لن نخوض في هذه الحكاية التي باتت معروفة، وإنما سندنو من النشاط “التأريخي” الذي راح الكاتب يمارسه مرة بشكل روائي، خصوصاً في قصته “السفينة الأخيرة” التي “أرّخ” فيها لنهايات قرطاجة الفينيقية التونسية، ولكن بشكل أكثر “علمية وصراحة” في ما لا يقل عن كتابين له حاول في كل منهما أن يجعل من نفسه مؤرخاً بكل معنى الكلمة، ومن دون أن يحقق نجاحاً علمياً كبيراً، وذلك بالتحديد لأنه في كتابيه “حرب البوير الكبرى” عند مفتتح القرن العشرين، ثم في المجلدات الستة التي يتألف منه تاريخه للحرب العالمية الكبرى (أي الحرب العالمية الأولى التي لم تكن مُرقّمة بعد!)، شاء أن يستخلص من التاريخ دروساً وعظية، ففعل كما فعل في “السفينة الأخيرة”، غارقاً في لغته الوعظية التي تنصح الناس بعدم خوض الحروب. عصبية اسكتلندية خالصة في الحالات الثلاث معاً أنهى دويل صياغته “العلمية” للتاريخ بخاتمة وعظية، وكان ذلك من حقه من دون أدنى ريب، لكنها خاتمة قد تكون مُستغربة من جانب كاتب من طينة آرثر كونان دويل، بيد أن من الواضح أنه سيكون في إمكاننا فهم هذا الكلام كله، إن نحن أبعدناه، بعض الشيء، عن محتواه القرطاجي العتيق في “السفينة الأخيرة”، وعن نظرة دويل إلى معاناة البشر العاديين إزاء حروب يخوضونها ويُقتلون فيها، وغالباً ما تُشنّ باسمهم زوراً وبهتاناً كما يقول لنا في الكتابين التاريخيين الآخرين، لنضعه في المحتوى الذي كان له، أيام كتبه دويل. فالواقع أن هذا الأخير، في نزعة اسكتلندية لا تنظر بعين الرضى إلى تعاظم الإمبراطورية البريطانية، على حساب الشعوب الأخرى، وهي النزعة التي عبّر عنها صراحةً في عام 1902، من خلال المنشور السياسي الذي كتبه عن “حرب الأفريكانر ضد الإمبراطورية البريطانية في جنوب أفريقيا”، هو الذي كان منذ بدايات القرن قد بدأ يتلمس نهاية الإمبراطوريات واجداً أن الأزمان الحديثة لم تعد صالحة لنشوء أمم ضخمة جديدة. ومن هنا، يبدو أنه إذا ما كانت كتابته “السفينة الأخيرة” تندرج في منظوره ضمن هذا الإطار الفكري، فإنه كان أكثر مما هو راغب في الحديث عن “انتصار الإمبراطورية الرومانية” العملاقة على إمارة قرطاجة الطموح، يرغب في أن يصف حدود هذا الطموح، مؤكداً أن كل عظمة وكبرياء ومجد له آخر، بل لعله كان يتنبأ من طرف خفي بالزوال الحتمي للإمبراطورية البريطانية، التي تصبح قرطاجة، في هذا المنظور، كناية عنها… ويبقى أن نسأل: إذاً، ما هي الإمبراطورية الأخرى التي ستنتصر، بدورها، بعد حين، لتكون نهايتها لاحقة، طالما أن دويل يختم قصته بتلك اللفتة الوعظية التي، إذ تسري على قرطاجة، ستسري طبعاً على روما لاحقاً… ثم على غيرهما في العصور الحديثة؟ إن الكاتب لا يجيبنا عن هذا السؤال… لكنه يُعطينا الإشارات تاركاً لنا الاستنتاج، وربما أنه توخى أن يسهل علينا الوصول إلى الاستنتاج الذي يريد، من خلال وصفه حرب البوير في مرحلة أولى من ممارسته كتابة التاريخ – وهو الوصف الذي جعل السلطات البريطانية، متجاوزة كل مواقفه الاقرب إلى السلبية، تمنحه لقب سير الذي سيرتبط باسمه منذ ذلك الحين – ثم من خلال تأريخه للحرب العالمية الأولى بعد ذلك، وتحديداً من منطلق أوروبي الهوى يدعو في نهاية الأمر إلى التماسك الخلاق والمظفر بين الجيوش الرئيسة الثلاثة التي كانت تحارب على جبهات فرنسية وإيطالية. المؤرخ يثأر من العدو فكونان دويل، وعلى الرغم من استخفاف المؤرخين، البريطانيين خصوصاً، بالمجلدات الستة التي أصدرها عن تلك الحرب، يبدو هنا وكأنه قد “ثأر” بشكل حاسم، وكاسكتلندي طبعاً، من الإمبراطورية البريطانية على الرغم من خروجها مظفرة من تلك الحرب. وبالنسبة إليه هو، على الرغم من تلك النزعة الأوروباوية التي انتهجها في ظاهر فصول الكتاب التي بدت أشبه برحلة جوالة بين الجبهات تشد آزر الجنود وتستخلص من تاريخ ما سمّاه “النضالات المشتركة” دروساً تعطي الحاضر مبررات ذلك التماسك. فهو إذا كان لم يفُته أن يؤكد في ثنايا كتابه، ولكن بشكل صريح في أحيان كثيرة، وحتى قبل أن تنتهي الحرب، أن الانتصار المقبل الذي بات مؤكداً “إنما سيكون بالنسبة إلى البعض انتصاراً أقل مرارة منه الهزيمة” بالنظر إلى أن “الانتصار” البريطاني وإلى جانبه الانتصار الفرنسي والإيطالي، لن يتم إلا في ركاب الأميركيين الصاعدين على مسرح الصراعات العالمية وبفضل تطلعات هؤلاء وقوتهم، ما يعني أن السنوات اللاحقة ستشهد نهاية تلك الإمبراطورية المُعادية لشعوب العالم، والتي كانت لا تغيب عنها الشمس، وذلك إلى جانب غياب الإمبراطوريات التي سادت خلال القرنين الماضيين، أي القرن الـ18، والقرن الـ19، “في غفلة عن الزمن” كما سيقول في مناسبات عدة لاحقاً، مؤكداً ما بات يقيناً تاريخياً بعد ذلك، وفي وقت كان كونان دويل لا يزال فيه حياً يراقب ما يحدث من حوله كما ما يدور في “عالم الأرواح”، وقد بات من المُولعين بجلسسات استحضار هذه الأرواح، ويراقب التقلص التدريجي لبريطانيا آملاً أن يأتي يوم تنفصل فيه اسكتلندا عن الإمبراطورية. وقد أكد أن الأزمنة الجديدة ستشهد قيام إمبراطوريات من نوع آخر تمناها أن تكون أقل تعسفاً وجبروتاً من تلك التي دق انتصارها في الحرب ناقوس نهاياتها. والحقيقة أنه لئن كان كاتبنا البوليسي الكبير هذا قد أبقى في كتابه عن حرب البوير شيئاً من تعاطف مع الجنود الإنجليز الذي يحاربون أوروبيين مستوطنين في جنوب أفريقيا (هم الأفريكانير الذين كانوا الطرف الآخر في حرب البوير)، فإننا نراه يقف في كتاب عن نهب الكونغو من قبل الأوروبيين أصدره في تلك الأثناء يدافع بقوة عن سكان البلاد الأصليين، ممهداً لمواقفه التي ستبدو أكثر تقدماً في مجلداته عن الحرب العالمية الأولى. من دون قيمة علمية في اختصار إذاً، وبالنسبة إلى المنطق التاريخي التحليلي، لم يكن لكتابات دويل تلك أي قيمة علمية. فلا تعمق في التاريخ هنا ولا هم يحزنون. كل ما في الأمر أن الكاتب لجأ إلى حدسه وإلى عواطفه، فحيا القوى التي باتت على وشك أن تنتصر في تلك الحرب، لكنه نبّه إلى أن ثمّة من الانتصارات ما لا يعني شيئاً على الإطلاق، وأن ذلك الانتصار بالذات، حتى وإن كان مسرحه أوروبياً، سيكون في الحقيقة انتصاراً لقوى آتية من تخوم أوروبا (روسيا)، ومن خارجها (الولايات المتحدة). لقد صح حدس الرجل يومها، ولكن الثمن أتى باهظاً من الناحية العلمية، إذ إن أحداً لم يعترف به مؤرخاً. ومن الناحية الشخصية البحتة، حيث إن ابنه كنجسلي الذي كان مجنداً في القوات البريطانية المحاربة في أوروبا تحديداً، أصيب بجرح عانى منه كثيراً، ثم أسلم الروح إثر إصابته بعد حين بالإنفلونزا الإسبانية التي كانت قد بدأت تستشري! من الطب إلى الكتابة مهما يكن من أمر، من البديهي، أن هذا كله، على الرغم من صحته التحليلية وفظاعته الحدثية، قد يبدو هنا خارجاً عن نطاق وإمكان نصّ في بضع صفحات، حتى وإن كان دويل (1859-1930) استساغ الكتابة عن الشؤون السياسية بوفرة في ذلك الحين. ودويل الذي وُلد في اسكتلندا، درس الطب في الجامعة، وظل طوال حياته طبيباً، إلى جانب كونه كاتباً. ولعل الدكتور واطسون، رفيق شرلوك هولمز، عكس شخصيته تماماً، وحقق بفضل كتاباته، وبخاصة بفضل عشرات الروايات والقصص التي حفلت بتحقيقات هولمز وفضول واطسون، شُهرة وثراء عظيمين، لكنه خاض في كثير من أنواع الكتابة الأخرى، كما أشرنا. أما أول أعماله التي أطلقت شُهرته ومكانته في الكتابة البوليسية، فكانت “دراسة باللون الأحمر”، علماً بأن القسم الأعظم من قصصه كان يُنشر أولاً في مجلة “ستراند” التي أضحت بفضل نشره فيها أشهر مجلات تلك الحقبة. المزيد عن: آرثر كونان دويل\شارلوك هولمز\الحرب العالمية الأولى\بريطانيا العظمى 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post دعوات تحديد النسل تثير سخرية العراقيين next post «رفقة عمر: مذكرات انتصار الوزير (أم جهاد)»: النساء في ساحة النضال You may also like براعة باخ في كونشرتوات براندنبورغ وأثرها الدائم 19 نوفمبر، 2024 في روايته الجديدة… أوبير حداد يصوّر الحرب بعيني... 19 نوفمبر، 2024 16 فيلم رعب تسببت بصدمة نفسية لممثليها 19 نوفمبر، 2024 العداوة والعدو كما فهمهما الفلاسفة على مر العصور 19 نوفمبر، 2024 قصة واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ حكايات... 19 نوفمبر، 2024 أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024