ثقافة و فنونعربي صاحب “البحث عن الزمن الضائع” حدد متى سيدرك عالم الأدب قيمته by admin 5 أكتوبر، 2022 written by admin 5 أكتوبر، 2022 14 رواية الروايات الفرنسية بين “مسيو مارسيل” وخادمته المحبة الطيبة سلستين اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كان ذلك في مثل هذه الأيام تماماً قبل قرن بأكمله يوماً بيوم، وبالتحديد عند نهاية شهر سبتمبر (أيلول) 1922. ففي ذلك اليوم فيما كان مسيو مارسيل راقداً على سريره يحتضر بصمت وهدوء مخفياً آلامه الشديدة التفت إلى سلستين الواقفة بجواره محاولاً أن يسبر عمق الحزن الذي يعتريها. ومسيو مارسيل لأنه كان يعرف سلستين جيداً منذ 10 سنوات رافقته خلالها في حياته اليومية وغالباً ما كانت الشخص الوحيد إلى جانبه لا تبارحه دقيقة إلا حين يجيئه زائرون، كان مدركاً أن حزنها مزدوجاً: فهي بالطبع، كما قال في نفسه، حزينة لأنها تعرف كما يعرف هو أنه لا محالة راحل بعد أيام قليلة فقد وصل بأمراضه إلى نهاية رحلته في هذه الحياة الدنيا على الرغم من أنه بالكاد كان تجاوز الـ50 من عمره، لكنه كان يحدس أيضاً بأنها حزينة وربما أكثر لأن “مسيو مارسيل” راحل من دون أن يحقق ما كان يأمل تحقيقه من مجد أدبي كبير كان يعتبره حقاً له وهو يعرف تماماً لماذا، فيما كانت هي تعتبره أكثر من حق له حتى وإن كانت حين حاولت قراءة ما كتبه طوال السنوات التي عاشت إلى جانبه لم تفهم شيئاً، ولكن سلستين ما كانت من النوع الذي يبالي بالقراءة أو بفهم ما يمكن أن تلتقيه صدفة من نصوص. فهي فقط خادمة مسيو مارسيل والقيمة على حياته وراحته وحسبها أن تكون مئات الصفحات مكتوبة بخطه لكي تقرر أنه مظلوم لأن المجد لم يعرف طريقه إليه. نبوءة كاتب مهما يكن من أمر فإن مسيو مارسيل وبالتحديد مارسيل بروست التفت في ذلك اليوم إلى سلستين بأبوية حنون وقال لها كمن يطيب خاطر طفل حزين “لا تأبهي يا سلستين. في نهاية الأمر سيقرأونني. ولئن كان ستاندال قد احتاج إلى الانتظار مئة عام قبل أن يقرأه الناس، ثقي أن مارسيل بروست لن يحتاج للانتظار أكثر من 50 عاماً!”. وبعد أقل من سبعة أسابيع لفظ صاحب “البحث عن الزمن الضائع” أنفاسه وهو مرتاح البال إذ طمأن سلستين. وهي آمنت فوراً بما قال وعادت إلى قريتها الريفية فخورة بسيدها الذي كان يدهشها كيف أنه على الرغم من مرضه وعزلته، تمكن من كتابة كل تلك الصفحات التي عشقتها على الرغم من كل ما فيها من إبهام لغوي لم تستطع أن تفك ألغازه. ولقد كان من حظها على أي حال أنها لم يدر في خلدها أن كتاباً كباراً وشيوعيين خصوصاً لا تعرفهم ولا تعرف عنهم شيئاً، ومن بينهم آراغون وصحافيو “الأومانيتيه” ما برحوا يشتمون “مسيو مارسيل” وكتاباته لا سيما منذ نال جائزة “الغونكور” الأدبية في عام 1919 عن “روايته الثانية” المعنونة “في ظلال فتيات الأزهار” هو الذي كانت “روايته الأولى”، “من جانب منزل سوان” قد مرت مرور الكرام حين صدرت عام 1913 ولم يقرأها أحد على الأرجح. والذين قرأوها لم يفهموا شيئاً. والحقيقة أننا إذا كنا نضع معقوفات تحيط بتوصيفنا لكتابي بروست الأولين هذين، فإنما لكي نحذو حذو سلستين نفسها. فهي لم تكن لتعلم منذ وصلت إلى الخدمة في منزل الكاتب الرهيف والأنيق في عام 1913 أي العام الذي صدرت فيه “في ظلال فتيات الأزهار” أن ما أصدره سيدها وسيصدره ثم يتركه دون نشر عند رحيله إنما هو أجزاء سبعة من رواية واحدة. والواقع أيضاً أن سلستين ما كان من شأنها أبداً أن تصدق لولا أنها تعيش إلى جانب مسيو مارسيل أن ما يكتبه جدير بالقراءة… فإذا به يصبح في رأيها جديراً بالخلود. المائدة كما كان يمكن أن تعدها سلستين لمسيو مارسيل بروست (غيتي) “غونكور” ملغومة ولنترك الآن سلستين ولو مؤقتاً ولنعد إلى كاتبنا الكبير نفسه ولنذكر بأنه حتى حين نال “الغونكور” عما سيصبح الجزء الثاني من رواية حياته الكبرى لم يكن في نيلها ما يشرفه تماماً. فخصمه الذي وصل معه إلى الشوط الأخير كان كاتباً يسارياً لن يكون له شأن أدبي كبير بعد ذلك وهذا صحيح، لكن ليون دوديه عضو لجنة التحكيم الذي كان قد بدأ مساره ليضحى من غلاة الفاشيين بين الأدباء الفرنسيين، حسم التصويت يومها بصوته نكاية باليساريين لا إيماناً منه بأدب بروست الذي لم يكن يعنيه على الإطلاق، بالتالي بدا ذلك “الانتصار” لبروست ذي الحس الرهيف انتصاراً أكثر مرارة من الهزيمة. وهكذا حين رحل عن عالمنا، وعلى الرغم من تطميناته الوديعة لخادمته المخلصة كان يشعر بمرارة. فخلال السنوات الثلاث التي بقيت له في الحياة بعد جائزة “الغونكور”، أصدر ثلاثة أجزاء أخرى من “البحث عن الزمن الضائع” وهي الجزء الأول والجزء الثاني من “شاطئ غيرمانت” ثم الجزء الأول والثاني من “صدوم وعمورة” ثم “الأسيرة”. أما الجزآن الأخيران اللذان أقفلا الرواية الكبرى على سبعة أجزاء وهما “اختفاء ألبرتين” و”الزمن المستعاد”، فلن يصدرا إلا بعد موته عامي 1925 و1927. وفي النهاية اكتمل العمل إذاً في ما يزيد على ثلاثة آلاف صفحة منذ عام 1927، ولكن على الرغم من هذا الاكتمال وعلى الرغم من “الغونكور” وعلى الرغم من بعض حماسة أبداها نقاد كتبوا عن الرواية معتبرينها علامة في تاريخ الأدب الفرنسي، كما على الرغم من أن جنازة بروست والاهتمام بموته كانا كبيرين بل أضخم كثيراً مما كان هو يتوقع. على الرغم من هذا كله، لم “تقلع” الرواية فظلت طوال مرحلة ما بعد الحربين في ما يشبه الظل بالكاد يهتم بها أحد وبالكاد تزيد مبيعات نسخها شهرياً على العشرات. لعبة الأقدار ومعجزة سلستين لقد بدا وكأن الأقدار لم تشأ أن تكذب توقعات مسيو مارسيل وإن كانت سلستين قد راحت تتابع الصحف على قدر فهمها لها متمنية أن تحدث معجزة ما تعجل من تحقق النبوءة مختصرة مهلتها. ولسنا ندري بالطبع ما إذا كانت تلك المرأة الطيبة الوفية قد ماتت بحسرتها في تلك الأثناء فالتاريخ نسيها تماماً وهي عاشت خارجه على أي حال، لكنها لو عاشت حتى نهاية سنوات الخمسين لأذهلها ما آل إليه مصير ذلك الكتاب الغامض الحبيب والغريب: بل لأذهلها أن يكون القدر قد سمح أخيراً لنبوءة مسيو مارسيل أن تتحقق بل أبكر بعض الشيء من الموعد الذي ضربه الكاتب بنفسه. فـ”منطقياً” كان من المفروض أن يصل المجد إليه عند بدايات سنوات الـ70، لكنه وصل قبل ذلك بما لا يقل عن دزينة من السنوات. ويقيناً أن سلستين لو كانت حية عند ذلك لكان من شأنها أن تقول إن السماوات قد استجابت لصلواتها وعجلت بوصول المجد، ولكن أي مجد! لقد كان مجداً وضع بروست مرة واحدة في مصاف كبيري الرواية الفرنسية من صنف الرواية– النهر، أونوريه دي بلزاك وإميل زولا، وذلك على الرغم من أن الناس وبخاصة الجمهور العريض من طينة سلستين، كان ولا يزال في مقدورهم أن يقرأوا الـ20 جزءاً التي تتألف منها سلسلة “آل روغون – ماكار” ويتابعوا حكايات شخصياتها المتصلة المنفصلة ويجدون تشابهاً بين حياتها وحياتهم. وكان في وسعهم ويلذهم أن يقرأوا الأجزاء التي لا تبدأ ولا تنتهي من كوميدياً بلزاك الإنسانية. فهناك ثمة حبكات وصراعات ومواقف وترابط مع أحداث التاريخ وتشعبات تتصل بتطور المجتمع الفرنسي، ولكن هنا لدى بروست ليس ثمة سوى ما يمكننا أن نسميه أدباً خالصاً. ليس ثمة حكايات ولا صراعات ولا أحداث اجتماعية كبيرة، بل زمن يمر وذكريات تطفو وتغرق وأرستقراطية تتحرك في لعبة مدهشة من العلاقات غير المتحركة بين البشر. مهما يكن وعلى الرغم من نخبويتها الصارخة تتمتع هذه الرواية بجمال لغوي وداخلي لا يمكن أن يكتشفه في الحقيقة سوى أولئك الذين يمكنهم حقاً أن يقرأوها فيكتشفوا أول ما يكتشفوا تلك الروابط الجوانية المحكمة وتلك الأجواء الاجتماعية الانحطاطية التي كانت تعيشها الأرستقراطية الفرنسية عند المرحلة الزمنية بين القرنين الأخيرين. المرحلة التي تألفت نخبتها الاجتماعية من شخصيات– هي بالتحديد التي يصفها بروست– أسبغ عليها الزمن سمات تمجد وتجمدها في المكان تاركة للزمان أن يتحرك كما يشاء. فهل كانت سلستين بدورها ظالمة للمسيو مارسيل حين بجلت روايته من دون أن تفهمها؟ تلك هي المسألة. المزيد عن: مارسيل بروست\البحث عن الزمن الضائع\جائزة غونكور\الأدب الفرنسي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post مستحضرات “منع الحمل” عنوان معركة بين إسرائيل والفلسطينيات next post يوم اختفت سيدة الروايات التشويقية من دون أن تترك أثراً You may also like فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024 مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024