لوحة ديلاكروا التي كرسها لتاسو (غيتي) ثقافة و فنون “شكاوى تاسو” الإيطالي بريشة الفرنسي ديلاكروا by admin 17 أبريل، 2025 written by admin 17 أبريل، 2025 28 لوحة مدهشة تغوص في سيكولوجيا جنون الإبداع ورهاب السجن اندبندنت عربية / العريس باحث وكاتب كان الرسام الرومانسي الفرنسي أوجين ديلاكروا سيداً كبيراً من سادة المدرسة الرومانسية في الفن الفرنسي والأوروبي في القرن الـ19، وهو لئن كان يدين بفنه وملوناته بل حتى في استشراقيته إلى الفنون الإيطالية، وبخاصة منها ما يعود لعصر النهضة، فإن هواه كان إنجليزياً في الأساس، وبخاصة من ناحية اختياراته الأدبية التي تبدأ مع ولعه بشكسبير وملتون ولا تنتهي بتبجيله للورد بايرون. ومن المعروف أنه حقق عدداً كبيراً من اللوحات في استلهام مباشر من كتابات هؤلاء ومواطنيهم المسرحية والشعرية والأدبية، ومن هنا يتوقف كثر عند كيف أن ديلاكروا الذي كان اعتاد الاعتراف بفضل الإيطاليين الفني عليه في مجال الرسم، خصوصاً أيضاً، وبصورة تكاد تكون استثنائية، شاعر النهضة الإيطالي توركاتو تاسو (1544-1595)، بلوحة تبدو إلى حد ما واقعية بصورة أو بأخرى، لكنها ولدت من هواه الإنجليزي لا الإيطالي. ولعل الجواب لا يخرج هنا عن ولع ديلاكروا الأساس بكل ما هو إنجليزي، كما سنرى بعد سطور على أية حال. وهو على أية حال ولع تقاسمه كبار الإنجليز ليصل عبرهم إلى ديلاكروا، وكذلك إلى بودلير اللذين كانا من الفرنسيين الذين خصوا النهضوي الإيطالي بلفتة فنية بديعة. وهنا سنكتفي منهما بالحديث عن اللوحة التي رسم فيها ديلاكروا معاناة تاسو في السجن، كبداية لغوصه في جنون كانت في أساسه حالة رهاب وحكاية غرام. تاسو في محفورة قديمة (غيتي) تاسو بين القضبان تحمل اللوحة المذكورة موضوعاً يجمع بين السجن ومأوى المجانين على أية حال، وهي ليست كبيرة الحجم كما اعتادت لوحات ديلاكروا أن تكون، بل إن عرضها لا يتجاوز الـ61 سم في مقابل ارتفاع يصل إلى 50 سم ومعلقة منذ زمن طويل في مجموعة خاصة، مما حال دائماً بينها وبين أن تكون من لوحات الفنان الشهيرة. غير أن حكايتنا ليست هنا، بل هي بالنسبة إلى ديلاكروا تتعلق بأن الكتاب الإنجليز، وغيرهم من الفنانين أولعوا ولعاً خاصاً بتاسو، بدءاً من ميلتون وشكسبير وصولاً إلى اللورد بايرون الذي نعرف أن مكانته لدى الرسام الرومانسي الفرنسي كانت كبيرة. وكان الإنجليز المحدثون ومن بينهم جون راسكين يرون في تاسو ما سيجاريهم فيه الشاعر الفرنسي بودلير من كون الشاعر اللاتيني رمزاً للمبدع الملعون الذي يعيش كي يدمر ذاته، وهو تدمير عبر عنه على أية حال الألماني الكبير غوته، الذي كان بدوره من كبار ملهمي ديلاكروا، إذ رأى في نص شهير له، أن دوق فيرارا الفونسو الثاني لم يكن بعيداً من الصواب حين أودع تاسو في مأوى للمجانين أبقاه فيه ما لا يقل عن سبع سنواته “لحمايته من نفسه ومن أن يؤذي الآخرين”، مع أن ثمة تأكيدات مبكرة تقول إن غضب الدوق على تاسو إنما كان بسبب وله هذا الأخير بليونورا ديستي ابنة الدوق وتشهيره بغرامه بها. لقد تبنى كثر على أية حال هذه الحكاية، حتى وإن كان ثمة في نصوص تاسو نفسه ولا سيما منها “حوارياته” التي تنم عن ذوق أدبي رفيع، ورسائله التي يزيد عددها على 1500 رسالة تنم عن ثقافة رفيعة في عدد كبير من المجالات، مما ينفي حكاية الغرام ليركز على عقدة الاضطهاد التي واكبت حياة الشاعر اللاتيني بأكثر مما فعل أي جانب آخر من جوانب حياته. والحقيقة أن لوحة ديلاكروا على رغم بعدها “المسرحي” وكونها تستند إلى شعر كتبه لورد بايرون عن تاسو، تتسم بقدر من الواقعية يفيض عما يبدو أن ديلاكروا كان يتقصده. رسم ينقل مشهداً عاطفياً متخيلاً لتاسو مع ليونورا من نص لغوته (غيتي) لعنة شاعر يقول بايرون في قصيدته “شكاوى تاسو”: “آه كم تثقل على نسغ الشاعر المتأرجحة / كما على روحه الجديرة بتحليق نسر / سنوات الغضب الطويلة”، ويقيناً أن مثل تلك العبارات ما كان من شأنها إلا أن تهز رساماً كان من أجمل لوحاته تلك التي رسمها لبايرون نفسه وهو يخوض كفاحه على أطلال ميسولونغي اليونانية، فرسم متأثراً ببايرون هذه اللوحة التي تصور تاسو جالساً في زنزانته داخل المأوى وكأنه على خشبة مسرح إليزابيثي، يرقبه في وحدته وصمته وكأنه حيوان في قفص، رهط من أناس تستبد بهم دهشة خالية من أي تعاطف وشفقة فيما هو أسهم في نظرته الخالية من أي معنى حافي القدمين عاري الصدر إلى حد ما، بصورة تكشف عن قدر هائل من اللامبالاة التي تكاد تجعل من جلسته ما يسم عادة لوحات الغريكو التي تصور آلام السيد المسيح. وإزاء هذا المشهد الذي أبدع ديلاكروا في نسجه، أما كان بودلير محقاً حين كتب تعليقاً يقول فيه “تلكم هي عناوينك أيتها الروح ذات الأحلام العتمة / الأحلام التي يحطمها الواقع بين أربعة جدران”. وأفلا يكون بودلير محقاً على أية حال في أن يرى في هذا “التاسو” كما تصوره ديلاكروا، رمزاً للشعراء الذين كان يصفهم بالملاعين، شاعراً عمله الوحيد أن يحلم في سجنه بالعالم الحقيقي، كما كتب المعلقون على معرفة بودلير العميقة بلوحة ديلاكروا هذه؟ هوى إنجليزي حسناً ها نحن نحيل بصدد هذه اللوحة إلى الألماني غوته كما إلى الفرنسي بودلير، غير أن الأمر لا يمكن أن يكون صدفة على أية حال، ولا يمكنه أن يبعدنا لا من هوى الإنجليز بتاسو ولا من هوى ديلاكروا بالإنجليز وإبداعاتهم. ففي نهاية الأمر كان ديلاكروا يعرف كثيراً عن أن واحدا من الأسباب العديدة التي كمنت في خلفية المكانة التي كانت للأوبرا الإيطالية في لندن كون الموسيقي الألماني هاندل استند إلى ارتباطه بتلك الأوبرا في مرحلته اللندنية، وبخاصة منذ قدم في العاصمة الإنجليزية أوبراه “رينالدو” المقتبسة أصلاً من قصيدة تاسو نفسه “تحرير القدس” (كما ذكرنا في هذه الزاوية قبل أسابيع قليلة)، فالواقع أن اسم تاسو لعب دوراً في نجاح هاندل وأوبراه لدى النخبة الإنجليزية نجاحاً سرى كالعدوى لدى العموم. هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فإن ديلاكروا أضاف اهتماماً فرنسياً بتاسو تحديداً انطلاقاً من اهتمامه هو نفسه بكل ما هو إنجليزي وبكل ما يهتم به الإنجليز، حتى من دون أن يكون إنجليزياً. وطبعاً لم يكن غريباً في هذا السياق أن يصل تاسو إلى رسام الرومانسية الفرنسية عن طريق شاعر الرومانسية الإنجليزية، اللورد بايرون. ويبقى أن نعود هنا بعد هذا لتاسو نفسه، الذي يكاد على أية حال أن يكون الأقل شهرة بين شعراء النهضة الإيطالية وكتابهم بصورة عامة، إلى درجة قيل معها دائماً إنه لولا الاهتمام الإنجليزي به لظل مطموساً. سيرة غريبة فلقد ولد توركاتو تاسو في سورنتو الإيطالية لأب كان بدوره شاعراً ملحمياً معروفاً، واشتهر قبل ولادة ابنه بعمل ملحمي هو “أماديس من بلاد الغول”. وفي اتباعه لسيرة أبيه عاش توكاتو سنوات حياته الأولى في بلاط دوق فيرارا، عيشة انطبعت باكراً بنوع من الإحساس بالرهبة والرعب إزاء كل ما يصادفه حتى باتت متراكمة لدية مجموعة عقد يمكن تلخيصها برعب الرهاب وتضافر مع الميل لوضع كل شيء موضع النقد. ومن المؤكد أن ذلك السلوك وداخل بلاط الدوق كان لا بد له في نهاية الأمر من أن يثير غضب الدوق عليه، بصرف النظر عن حقيقة أو زيف الحكاية التي تتعلق باليانورا، ومن هنا كان سجنه له في المأوى هو الذي زاد من إحساسه برهاب الاضطهاد على الشاكلة التي صوره بها ديلاكروا كما رأينا. حتى وإن كان مبدعون كبار من طينة جون ميلتون وغوته وبايرون وبودلير من بعدهم آثروا تبني حكاية الغرام، وما أسفر عنه من ضربة سجن أليمة أنهت الجانب العقلي من حياة تاسو، مبقية لديه على أية حال، ذلك الجانب الإبداعي الذي أنتج أعمالاً كبيرة في الشعر والنثر ومئات الرسائل التي تعتبر اليوم آثاراً أدبية كبيرة، إضافة إلى كتب علمية وتربوية ومسرحيات تجعل من هذا الكاتب النهضوي الكبير مبدعاً جديراً بأن يعاد اكتشافه، وليس دائماً على ضوء مآسي حياته. المزيد عن: أوجين ديلاكرواالرومانسيةعصر النهضة الإيطاليةتوركاتو تاسو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post إيلي القصيفي يكتب عن: بين مسقط والرياض وأذربيجان… الصياغات الجديدة للمنطقة وآفاق الاستقرار next post إدارة ترمب تهدّد بمنع جامعة هارفرد من تسجيل طلاب أجانب You may also like المستشرق بروفنسال يسبر كوامن الحضارة الإسلامية في إسبانيا 19 أبريل، 2025 الفلسفة والسينما: ابتكار المفاهيم وإنتاج الصور 19 أبريل، 2025 “درب الريش” تكشف عبثية الصراع بين الشمال والجنوب 19 أبريل، 2025 عبده وازن يكتب عن: بارغاس يوسا تخطى “الواقعية السحرية”... 17 أبريل، 2025 معرض باريس يكرم الأدب المغربي الفرنكوفوني ويتجاهل العربي 17 أبريل، 2025 غاودي شيد مبنى سكنيا تنبأوا له بالانهيار 17 أبريل، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: الأفعى والجمل قطعتان أثريتان... 17 أبريل، 2025 شوقي بزيع يكتب عن: التروبادور ينتصرون للحب المستحيل... 17 أبريل، 2025 ( 10 ) أفلام لبنانية غاصت في هاوية... 15 أبريل، 2025 عبده وازن يكتب عن: معرض أربيل للكتاب يرسخ... 15 أبريل، 2025