الروائية الأميركية سيري هوسفيت (دار أكت سود) ثقافة و فنون سيري هوسفيت روائية الواقع الأمومي المرفوض by admin 27 يناير، 2024 written by admin 27 يناير، 2024 116 رفيقة بول أوستر يظلمها وصفها بفيرجينيا وولف القرن 21 اندبندنت عربية / انطوان جوكي لم تنصف “المجلة الأدبية” في بريطانيا سيري هوسفيت بوصفها بـ “فرجينيا وولف القرن الحادي والعشرين”، حتى وإن كان المقصود بذلك مدحها. فوصف هذه الكاتبة الأميركية على هذا النحو يضعها في ظلّ وولف، في حين أن فكرها الفسيح ومعارفها المتعددة الاختصاصات ومهاراتها الكتابية، التي تعكسها أعمالها الشعرية والروائية والتأملية، تبيّن بوضوح موقعها الفريد داخل المشهدين الفكري والأدبي، وبالتالي عدم وقوفها في ظل أي كاتب، مهما علا شأنه، بما في ذلك زوجها اللامع بول أوستر، الذي أقرّ مراراً بأن “المفكّر في منزلنا هو سيري”. مَن لم يقرأ هوسفيت بعد، ننصحه بالبدء بكتابها الأخير، “أمهات، آباء وآخرون” (2021)، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار “أكت سود”، لكونه عبارة عن مجموعة كبيرة من النصوص التي تشاركنا فيها قصصاً شخصية وعائلية تجعلنا نتعرّف إليها عن كثب، ونتذوّق من خلالها قدرتها المدهشة على التأمل في موضوعات أدبية وفنية وعلمية وسياسية مختلفة، كمشاعر الأمومة والأحكام المسبقة والتمييز الجنسي والقسوة البشرية والقدرة التحويلية للفن. كتاب فريد من نوعه، شكلاً ومضموناً، تقف خلف التأملات المسيّرة فيه، فكرة مركزية مفادها التالي: أن نكون أحياء يعني أن نكون في حالات من التبادل المستمر والحيوي مع ما يحيط بنا، ولذلك، تحمل نزوة خط حدود مفاهمية صارمة وسريعة حيث لا وجود لها، عواقب نظرية وسياسية خطيرة. “أمهات آباء وآخرون” بالترجمة الفرنسية (دار أكت سود) النصوص الأولى في هذا الكتاب هي أكثر سيرذاتية من تلك التي تليها، إذ تبدأ هوسفيت فيها بالتنقيب في حياة جدّتها النرويجية في ريف ولاية مينيسوتا الأميركية، من منطلق علاقاتها الصعبة بزوجها وابنها، والد الكاتبة، وإهمال هذا الأخير أمه في الجهد التوثيقي الذي بذله لسرد تاريخ عائلة هوسفيت. إهمال ترى فيه مؤشراً إلى “الأرض المنسية للأم والأمهات، مملكة الرحم التي لا صوت لها”. بعد ذلك، تروي بحساسية بصيرة، حياة أمها في النروج أولاً، خلال الاحتلال النازي، ثم في مينيسوتا قبل وفاة زوجها وبعدها، متوقّفةً خصوصاً عند العلاقات المميزة التي ربطتها بها، وبالتالي عند الصدمة التي تلقّتها إثر وفاتها، وكانت من دون شك الدافع لانطلاق سيرورة التذكّر في هذه النصوص. تذكّر يشكّل كل منعطف فيه فرصة لهوسفيت كي تقود تأملات عميقة في الأمومة والأبوة، وفي العلاقات العائلية، ممزّقةً في طريقها كل الكليشيهات المتداولة حول هذه المواضيع، بما في ذلك داخل العلوم الإنسانية التي تُعنى بها، ومدافعةً بقوة عن واجب اعتبار تربية الأطفال مسؤولية تقع على عاتق الزوجين والمجتمع ككل، لا على عاتق الأم بشكلٍ رئيس. الكتاب بالأصل الأميركي (أمازون) المقالات التي يتألف منها هذا الكتاب هي نصوص مستقلة بذاتها، إلا أن التأثير التراكمي لها يعزز قيمتها ويجعل منها عملاً مدهشاً في تكامله، يعرّي التراتبيات الجنسية التي ما زالت سائدة، تارةً بالتحليل المباشر، وطوراً من خلال تفحّص أعمال أدبية شهيرة. تعرية غايتها خصوصاً الانقضاض على الأيديولوجيات التي تجعل من الأمهات نموذجاً مثالياً للتضحية بالنفس، عبر كشف واقع الأمومة الذي يبتعد كل البعد عن الاستيهامات المسيّرة في موضوعها، والتي تثقل مجتمعاتنا بها كاهل كل أم: “الحقيقة البسيطة المتمثّلة في كون حياة كل إنسان تبدأ داخل إنسان آخر، تطارد الأمومة”. قيد الأمومة وفي هذا السياق، ترى هوسفيت أن مفهوم الأم الصالحة هو عبارة عن قيد، عن “قميصول” (السترة التي تُستخدم لتقييد المجانين)، والاستعارة هنا تجسّد بدقة القوانين العقابية التي تتحكم بسلوك الأمهات ومشاعرهن. قوانين تشكّل مصدر خزي وشعور بالذنب لأولئك اللاتي، لأسباب شديدة التعقيد، يعانين في تربية أطفالهن، لكنها لا تمسّ إلا نادراً الآباء”. والسبب، برأيها: “الحمل حالة خيالية (للرجل)، والخيال يبقى حيواناً مرعباً لأنه ينطوي على الاختلاط”. من هنا التباس علاقة معظم الرجال بالنساء، وموقفهم العدائي (misogynie) تجاههن، علماً أنه موقف غريب، في نظرها، “لأن كل كائن بشري يولد من امرأة”. وبغية تفنيد “ربط التقليد الغربي الجسد والعاطفة والطبيعة بالأنوثة السلبية، والعقل والمنطق والثقافة بالذكورة الحيوية”، ترصد هوسفيت عدة نصوص لجاين أوستن وإميلي برونتي ولويز بورجوا، تفتح فيها نوافذ على جوانب مختلفة من الأنوثة تناقض التوقعات المنمّطة في شأنها، كتمثيل بورجوا الثوري للأمومة “في كل جوانبها المعتمة والنيّرة والضبابية”، ورؤيتها للحمل والإنجاب، في عملها، التي تضفي على الأمومة صفات رجولية. وفي نصوص أخرى، تتتبّع الاستيهامات الذكورية في موضوع قدرة الرجل على الإنجاب، من عصر الإغريق إلى علم الوراثة الحديث وفكرة الرحم الاصطناعي، مبيّنةً أن الدافع الذي يقف خلفها هو من دون شك شعور بالنقص لدى الرجل ناتج عن انعدام أي دور له أثناء الحمل. تتتبع أيضاً بعض الآثار السلبية للثقافة الذكورية داخل العلوم نفسها، كالفكرة التي ما زالت سائدة إلى حد اليوم، وتقول بأن حيوانات الرجل المنوية هي التي تسبح داخل رحم المرأة، وتتنافس في ما بينها لتخصيب البويضة، في حين أن الحقيقة هي أن انقباضات الرحم هي التي تنقلها إلى البويضة؛ أو التصوير الكاريكاتوري لعضو المرأة التناسلي كمجرّد قضيب مفتوح، الذي بقي رائجاً بين علماء البيولوجيا حتى القرن العشرين! مثالان يشكّلان، في نظرها، خير شهادة على أننا لا نصدّق فقط ما نراه بأعيننا، كما قال القديس توما الأكويني، بل نرى أيضاً ما نصدّقه، حتى لو كان وهمياً! وفي نصّ شخصي مثير تتحدث فيه عن مرحلة تكوينها الفكري والأدبي، تتناول هوسفيت موضوع المعلمّ أو الأب الروحي أو المرشد، للإشارة إلى أنها لم تحظ بمثل هذه الشخصية الموجّهة، ولم تسع أصلاً خلفها، بخلاف الكثير من الكتّاب الكبار الذين احتاجوا إلى معلم، في بداياتهم، أو عثروا عليه بالصدفة، فوضعوا أنفسهم في موقف التلميذ تجاهه، وتأثروا به، قبل أن يصقلوا هويتهم الخاصة، مثل الشاب صامويل بيكيت الذي بقي طويلاً في ظل جيمس جويس، أو زوجها الذي “مغنطته” طويلاً كتابات بيكيت المسرحية. وفي أكثر من مناسبة، تتحدث الكاتبة عن علاقتها الزوجية بأوستر. وما تقوله في هذا السياق لا ينير فقط جوانباً مجهولة ومثيرة من شخصية كل منهما، بل يبيّن أيضاً مدى تواطؤهما الفكري والعاطفي. تواطؤ يجعلها تعبّر بانفعال، في أحد نصوصها، عن رغبتها في أن تُحرَق ويُنثر رمادها فوق زوجها، أو تحته، وفقاً لمن يموت أولاً. تلخيص مضمون كتاب هوسفيت بأسطر قليلة مستحيل نظراً إلى غزارة التحليلات العميقة والأفكار المبتكَرة التي تلهب نثره الأخاذ، وإلى المصادر التي لا تحصى التي تستشهد الكاتبة بها لدعم ما تتقدم به، مستلهمةً في حصيلتها الفكرية المدهشة الفلسفة، الأدب، الفنون البصرية وأحدث النظريات في علم التحليل النفسي وعلم الأعصاب الإدراكي والعلوم الإنسانية. ومع أن نصوص الكتاب غير متجانسة، وتمتد كتابتها على مدى عشر سنوات، لكنها تستمد تماسكها من طبيعة خطاب هوسفيت في كل منها، الذي يجمع بين سعة اطلاع نادرة وتساؤل مرح، وبين حس روائي للأهواء وتعقيدات الحياة، وحس قاطع للجدل النظري والسياسي. المزيد عن: روائية أميركيةروايةسيرة ذاتيةالأمومةالواقعبول أوسترالثقافةجين أوستن 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “ليلى وفرانز” رواية تعيد تفكيك ثنائية الأنا والآخر next post Steamboat Willie: How Mickey Mouse’s first appearance saved Walt Disney from ruin and changed cinema forever You may also like مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024