السرد على ألسنة الحيوانات في "كليلة ودمنة" (دار الهلال) ثقافة و فنون سمير قسيمي يجعل من السلحفاة بطلة نسائية by admin 15 مارس، 2025 written by admin 15 مارس، 2025 18 ” إحذر دائما من الكلاب” رواية تجمع بين الغرائبية والترميز اندبندنت عربية / سارة النمس يجد قارئ رواية “إحذر دائماً من الكلاب” نفسه مضطراً إلى إعادة تتبع الأحداث وربط خيوط الشخصيات بعضها ببعض، مع استكشاف التفاصيل والإشارات الرمزية التي تحمل في طياتها رسائل مبطنة. فهذه الرواية التي لا تعنى بالسرد المباشر على الإطلاق، اعتمد فيها صاحب “يوم رائع للموت” بصورة رئيسة على الإيحاء أكثر من التصريح. إنها في هذا المعنى ليست رواية سلسة بأحداث واضحة المعالم، على رغم صغر حجمها وعدد صفحاتها الــ151. لعلها تحتاج إلى تركيز، فهي لا تسير وفق خط مستقيم، بل تتشابك مساراتها في بنية معّدة مليئة بالألاعيب اللغوية والمعاني المضمرة التي يسعى قسيمي إلى إيصالها. الرواية الجديدة (أبجد) لعل هذا ما يجعل القراءة في هذه الرواية لعبة ممتعة وتحدياً مشوقاً بين القارئ والكاتب. فكما يطمح القارئ إلى أن يكون كاتبه المفضل عند مستوى توقعاته، فإن الكاتب بدوره يتمنى قارئاً قادراً على تفكيك رموزه اللغوية والتقاط إشاراته الذكية. وهنا تتجلى براعة قسيمي، إذ أتقن في هذه الرواية فن الألاعيب اللغوية، بدءاً من التكثيف والاختزال الحاد، كأن يضع أمامك معلومات مكثفة في فقرة صغيرة، مما يجعلك تقرأ ببطء أثناء التعرف إلى الشخصيات الجديدة، وصولاً إلى التلاعب بالإيهام. خدع سردية هذا ما يبدو في إحدى أبرز خدعه السردية حين يقدم شخصية تبدو في البداية وكأنها امرأة مسنة مريضة تنتظر الموت، ثم نكتشف بعد فصول عدة أن هذه الشخصية ليست بشرية أصلاً، بل سلحفاة! حتى عندما يصرّح الكاتب على لسان الشخصية بوضوح “اسمي تيموثي، رجاء لا تقلقوني، فأنا لست سوى سلحفاة مسنة جدًا”. يظن القارئ للوهلة الأولى أن العبارة مجازية، ليفاجأ في الفصل التالي بأنها سلحفاة بالفعل، حينها يعود للخلف باحثاً عن أي إشارة سابقة تكشف عن طبيعتها. لكنه لن يجد شيئاً لأن الكاتب بحنكة ذكية لم يذكر ما يدل على أنها امرأة، لكنه في الوقت ذاته لم يذكر ما ينفي ذلك، مما يجعل القارئ يقع في فخ التوقعات حتى يكتشف الحقيقة بنفسه. فالرواية تنطلق بشخصيات بشرية من لحم ودم، يروي فيها سمير بصوت الراوي العليم عن رحلة “عبد المؤمن” الذي يسافر إلى مدينة مارسيليا لإجراء حوار مع “نسرين نايت خوجة”، السيدة المسنة التي يرغب في الحصول منها على معلومات تاريخية، تهمه وتهم عائلته. الروائي سمير قسيمي (صفحة فيسبوك) ولذا حين ينتقل السرد إلى “تيموثي القديمة” لن نشك في أن الكاتب يتحدث عن سلحفاة لأن العقل يميل إلى افتراض أن الشخصيات جميعها بشرية، مما يجعل لحظة الكشف غير متوقعة، لنجد أنفسنا، مع حكاية سلحفاة عمّرت أكثر من 170 سنة، ولديها حكاية ترويها، حتى إنها تعد في نظر نسرين قرينتها في عالم الحيوان، نظراً إلى ما يجمع بينهما من أقدار متشابهة. وهذه اللعبة اللغوية كانت من أقوى عناصر الرواية لأنها تزيد من عنصر التشويق وتدفع إلى التمسك بالنص حتى النهاية. مساران سرديان اعتمد قسيمي مسارين رئيسين للسرد، يتنقل بينهما بالتناوب بين عالم الإنسان وعالم الحيوان في حبكة متشابكة. فمن جهة يروي لنا قصة الجدة نسرين، بطلة لوحة “فاتنة الميناء” التي رسمها الرسام الهولندي آري فيشر. ومن جهة أخرى يأخذنا إلى حكاية السلحفاة تيموثي القديمة والغيلم الصغير الذي رافقها في لحظات احتضارها، فمنحته اسم “تيموثاوس”، وهي تخبره بأنه من كان ينبغي أن يحمله، والاسم يعود في الأصل، للقديس تيموثاوس، مما يضفي على شخصية تيموثاوس الغيلم أبعاداً رمزية، إذ يقدر له أن يحمل رسالة عظيمة لبقية الحيوانات في العالم، شرط أن يتعلم القراءة والكتابة من البشر الذين يقيم معهم في البيت. وتسرد السلحفاة للصغير وقائع ثورة الحيوانات التي انتهت بهزيمتهم، مما يحيلنا إلى رواية “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل، وتشرح له باقتضاب رسالته التي وصفتها بالبشارة الجديدة. ويواصل قسيمي توظيف هذا المفهوم في السرد من خلال عبارات مثل البشارة العظيمة أو الرسالة، الدعوة، من دون أن يستخدم مصطلح الدين الجديد، بل هو ينفي هذه الفكرة في مواضع عدة على لسان تيموثاوس، “كلا، أنا لا أبشر بدين جديد”، ومع ذلك ينتهي الأمر بالحيوانات إلى التعامل معه وكأنه كذلك في مفارقة تعكس كيف تؤوّل الأفكار والمفاهيم خارج سياقها الأصلي. يجد القارئ نفسه أمام مقاطع وأوصاف تتقاطع بوضوح مع شخصيات رمزية في الواقع، ويبرز صراع محتدم بين طائفتين في هذا العالم كأن يرد في السرد “ومثلما يحدث دائماً بين طائفتين تدينان بالوهم، نشب الخلاف بين المؤمنين بأن تيموثاوس الصغير هو الجاثوم الذي نصت الأحاديث على وجوب قتله”. بهذا يستخدم قسيمي الرمزية موحياً بأن النزاعات العقائدية قد لا تكون سوى انعكاسات لصراعات فكرية تدور حول تأويلات وتصورات مختلفة للحقيقة. وتظهر في الرواية شخصية الجرذ ذي الرقبة الصفراء الذي يطلق عليه اسم “الأصفر ابن أبيه”، إذ يتولى جمع شهادات الجرذ يحيي صديق تيموثاوس وينشر دعوته. كل هذه التلميحات تبدو وكأنها مقصودة وكأن الروائي يسعى من خلالها إلى إيصال رسائل محددة. كان بإمكانه، كما أشار في النص، أن يبتكر داعياً جديداً للحيوانات ببشارة جديدة ومستقلة، وربما كان ذلك ليكون خياراً أكثر ابتكاراً، متناسباً مع الأجواء الفانتازية القوية التي بدأ بها روايته، إلا أن القارئ قد يشعر، في بعض المواضع، وكأنه أمام إسقاط مباشر للروايات الدينية،بأسماء مستعارة تحملها حيوانات لطالما ارتبطت بالذم في الوعي الجمعي، خصوصاً الجرذان. ومع ذلك، فإن الكاتب لم يلجأ إلى هذا الإسقاط عبثاً، بل امتلك رؤية واضحة في استعاراته، فنجد أن الفوضى والصراعات في عالم الرواية تحدث بينما لا يزال تيموثاوس حياً، يشهد بأم عينيه كيف تُشوّه دعوته وتُحرف عن مسارها. في هذا السياق يبدو السرد وكأنه يحمل رسائل مشفرة، محاولاً عبر عالم الحيوان نقد عالم الإنسان، تماماً كما فعلت أعمال كلاسيكية مثل “مزرعة الحيوانات” لجورج أورويل و”كليلة ودمنة” لابن المقفع، فتتحول الحكاية الرمزية إلى مرآة تعكس الواقع الإنساني بتناقضاته وصراعاته الدينية والفكرية. صوت الكاتب لا يغيب الكاتب عن أحداث الرواية، خلافاً لما هو شائع في الأعمال التي تُسرد بأصوات الشخصيات أو صوت الراوي العليم. ففي البداية يأخذ السرد طابعاً أقرب إلى المقالة الوثائقية منه إلى السرد الروائي، ولكن الأمر يتحسن تدريجاً مع تقدم الفصول. ثم يتدخل صوت الكاتب بصورة مفاجئة مستخدماً أسلوباً يكسر الجدار الرابع كما في الهامش الذي كتب فيه “هنا لا بد للكاتب من أن يؤكد للقارئ، بخاصة أنه رجل لا يملك من الشجاعة إلا ما يدعيه، أن خطأ ما قد أصاب لوحة مفاتيح الحاسوب”. وفي الواقع فما نقرأه يعاكس هذا التصريح المتواضع، إذ يتناول الكاتب بجرأة مواضيع تعد من “التابوات” ويعالجها بشجاعة تفوق ما يدعيه، مستعيناً بعالم الحيوان لتمرير أفكاره الجريئة. المزيد عن: روائي جزائريروايةالحيواناتالسلحفاةجورج أورويلابن المقفعالتخييلالسلطةالرمزية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عندما اعترف كانط بأن مادة المعرفة تأتي عبر الحواس والتجربة next post موقف روسيا من الهدنة الموقتة: نعم مشروطة ولا مرتبطة بالميدان You may also like لماذا ركز حفل الأوسكار على بوند وترك لينش... 15 مارس، 2025 هكذا تدلى ابن خلدون من أسوار المدينة للقاء... 15 مارس، 2025 رائد الكوميديا المغربية محمد الجم يعود الى التلفزيون 15 مارس، 2025 “حكي العوام” لشربل داغر: خريطة الأدب الجينية 15 مارس، 2025 “نزوى” العمانية : يحيى الناعبي في حوار (الفكر... 15 مارس، 2025 بعد 25 عاما من “أسنان بيضاء”… زادي سميث... 14 مارس، 2025 روائية استرالية تحاكم فيرجينيا وولف في لعبة تخييلية 14 مارس، 2025 توماس مان يتلمس صعود الفاشية بين زعيم مخادع... 14 مارس، 2025 الرسامة رباب نمر رحلت في غيوم الأبيض والأسود 14 مارس، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: ثلاث قطع نحتية من... 12 مارس، 2025