معالج الذكاء الاصطناعي في أحد المعامل في أوستن بولاية تكساس، يوليو 2024 (سيرجيو فلوريس/رويترز) بأقلامهم ريفا غوجون تكتب عن: رهانات فعلية في سباق الذكاء الاصطناعي by admin 12 يناير، 2025 written by admin 12 يناير، 2025 14 مغانم وخسائر لأميركا والصين والقوى المتوسطة الحجم اندبندنت عربية / ريفا غوجون ريفا غوجون هي مديرة في “مجموعة روديوم” Rhodium Group للبحوث والدراسات ثمة شعور سائد في واشنطن وبكين ومقار قيادية عالمية أخرى بأن سباق الذكاء الاصطناعي قد شرع في التحول إلى لعبة صفرية المحصلة [فوز المنتصر هو بمقدار الخسارة التي يمنى بها الطرف المهزوم]، وأن بقية القرن الحالي سيكون على هيئة المنتصر ورؤيته. ويغذي هذا الشعور سياسات صناعية طموحة وتشريعات تنظيمية وقائية وتوظيفات بمليارات الدولارات، وفي المقابل يتسارع خفق خطى الحكومات والشركات الخاصة بهدف تحقيق الهيمنة في الذكاء الاصطناعي، لكن لا يملك أي طرف رؤية واضحة عن معنى الفوز أو ماهية المكاسب الجيوسياسية التي ستعود بها استثماراتهم في تلك التكنولوجيا. وثمة رهانات على المحك تتخطى تحقيق الهيمنة في الحوسبة، وتخوض الولايات المتحدة والصين وقوى متوسطة والشركات العملاقة في التكنولوجيا، صراعاً على الهيمنة في الذكاء الاصطناعي، لكنه في الأساس منافسة هدفها فرض سيطرة رؤية لأحد تلك الأطراف على النظام العالمي برمته. وترى الولايات المتحدة أن الذكاء الاصطناعي يشكل الحدود الجديدة التي يجب إبقاء هيمنتها وسيطرتها عليها، ويدأب صناع السياسة الأميركيون على استعمال ترسانة من التشريعات التنظيمة بهدف إعاقة التطور التكنولوجي للصين، وإبقاء بلادهم متقدمة عليها. وفي المقابل تعمل الصين على تحشيد قوى الدولة بهدف تجاوز الفجوة التقنية التي تفصلها عن أميركا، وفي الوقت نفسه تجهد مجموعة من القوى المتوسطة الحجم دولياً في محاولة تجنب الوقوع تحت ظلال أي من القوتين العظمتين، وكذلك الحال بالنسبة إلى الشركات التكنولوجية العملاقة التي تكرس جهودها لتحقيق الانتشار العالمي للتقنية عبر الأسواق المفتوحة، وترى تلك الأطراف الأخيرة أن تطور الذكاء الاصطناعي يمهد الطريق أمام ظهور عالم متعدد الأقطاب. وبالفعل ثمة كرة ثلج متدحرجة آخذة في التعاظم بأثر من الضوابط التكنولوجية الأميركية [لمنع انتقالها إلى منافستها الأبرز] والاستجابة المتصاعدة للصين في مواجهتها، إذ تعقد الولايات المتحدة العزم على استدامة هيمنتها وتفوقها في التكنولوجيا، وباتت تلجأ إلى إجراءات أكثر شراسة لخنق تطور الصين في الذكاء الاصطناعي. وفي المقابل ستسعى الصين القلقة على تصيد الفرص إلى التوازن مع تلك الإجراءات، بما في ذلك احتمال كامن بالتحرك في نقاط أمنية واضحة كمضيق تايوان، وفي السياق نفسه ستكافح القوى المتوسطة وشركات التكنولوجيا العملاقة بضراوة بهدف بناء أنظمة اللذكاء الاصطناعي وتطبيقاته خارج أطر سيطرة القوى الكبرى المتنافسة. وترنو تلك الأطراف إلى الحصول على نصيب ما في النظام التكنولوجي الدولي حتى لو تطلب الأمر مخاطرتها بتلقي النيران من الطرفين المتصارعين، وفيما ينحو السباق الدولي في الذكاء الاصطناعي نحو اتخاذ هيئة الصراع الوجودي، فإن الرهانات المرتفعة لعملاقة التكنولوجيا والقوى الدولية قد تؤدي إلى حريق في الجغرافيا السياسية. الاحتفاظ بقصب السبق ترسي الولايات المتحدة إستراتيجيتها في الذكاء الاصطناعي على فرضية مفادها أنها تستطيع بصورة هجومية الاحتفاظ بهيمنتها وتفوقها عبر المثابرة على معدل من الابتكار التقني يفوق بأشواط عدة بقية العالم، ومن الناحية الدفاعية تحقق ذلك على ضوابط واسعة المدى على التكنولوجيا تستهدف إعاقة مسار الصين التي تشكل منافستها الجيوسياسية الأضخم. واستطراداً يجري تصميم ضوابط التصدير والقيود على الاستثمار بهدف إيقاف تدفق البضائع ورؤوس الأموال والمعارف التقنية، وتفترض إستراتيجية واشنطن أن الصين تعاني تدهوراً بنيوياً في الاقتصاد، إضافة إلى كون مقاربتها المستندة إلى قوة الدولة [بمعنى الإمساك بالتطور التقني والاقتصادي] سيخنق روحية التوثب في اقتصاد واقع بالفعل تحت رحمة الحزب الشيوعي وسكرتيره العام شي جينبينغ. وكذلك تعقد الولايات المتحدة رهاناً ضخماً على تنافسية التكنولوجيا الأميركية ومدى ثباتها ومثابرتها، وكذلك تراهن واشنطن على أن شركاءها الذين قد يقاومون الانضواء تحت راية إستراتيجيتها الحمائية سيضطرون في نهاية المطاف إلى وضع رهاناتهم على التكنولوجيا الأميركية ووعود الابتكار الغربية في الذكاء الاصطناعي، بأكثر من المراهنة على أن تستطيع الصين إغلاق الفجوة التقنية مع أميركا والتفلت من العقوبات الأميركية، وبالنتيجة تهيمن التكنولوجيا الأميركية وحقوقها في الملكية الفكرية على كل مستويات صناعة الذكاء الاصطناعي، وتعمل مسرعات الذكاء الاصطناعي في الرقاقات الإلكترونية التي تنتجها شركة “إنفيديا” Nvidia على زيادة قدرات الحوسبة في تلك المنتجات بما يفوق منافساتها بأشواط واسعة، وبالتالي فإنها تقود ثورة الذكاء الاصطناعي وكذلك تعمل الشركات الأميركية التي تقدم خدمات تقنية “حوسبة السحاب” مثل “خدمات أمازون الشبكية” Amazon Web Services ومنصة “آزور” من مايكروسوفت Microsoft Azure، و”منصة غوغل السحابية” Google Cloud Platform على توفير انتشار كثيف وواسع للبنى التحتية الرقمية ومصادر الحوسبة، وعلى نحو مماثل طورت شركات مثل “غوغل” و”ميتا” و”أوبن إيه آي”، و”آنثروبيك” Anthropic و”إكس إيه آي” xAI، الأسس لنماذج الذكاء الاصطناعي الذي ستعتمد عليه الشركات في كل العالم، بهدف تطوير وتحسين تطبيقات الذكاء الاصطناعي لديها. وفي المرحلة الحالية الباكرة من تطور الذكاء الاصطناعي تحوز الولايات المتحدة الموقع المتفرد فيه، واستكمالاً لا تملك سوى حفنة صغيرة من الشركات خارج الولايات المتحدة ما تحوزه المؤسسات الأميركية في النماذج الكبرى للذكاء الاصطناعي Large-scale AI models، خصوصاً النوع التوليدي منه generative AI الذي يستعمل تقنيات التعرف إلى الأنماط في البيانات المتوافرة لديه كي تكون منه محتوى جديداً، مع ما يتطلبه ذلك من حيازة قدرات ضخمة في الحوسبة وامتلاك كميات هائلة من البيانات. وليست مصادفة أن تحتل الولايات المتحدة الموقع القيادي في هذه الصناعة، وخلال الأعوام الخمسة الماضية اجتذبت أميركا أكثر من 328 مليار دولار من الاستثمارات في تعزيز تطور الذكاء الاصطناعي وتدعيم ثقافة تكافئ الجرأة على المخاطرة، وبالاستناد إلى خطوة التوسع في الإنتاج المحلي للرقاقات التي بادرت إليها إدارة بايدن حيال السياسات الصناعية فقد أطلقت إدارة ترمب المقبلة ما تباهت بأنه “مشروع مانهاتن في الذكاء الاصطناعي” [نسبة إلى مشروع مانهاتن الريادي في بناء القنبلة النووية] في إشارة إلى أنه يضيف سرعة ضخمة إلى ثورة الذكاء الاصطناعي التي تقودها الولايات المتحدة. وفي المقابل فليست الهيمنة الأميركية على التكنولوجيا حصينة بصورة مطلقة، وقد يخف وزن المكاسب الأميركية الحالية تحت تأثير تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وانتشارها، وحتى اللحظة تمحور التطور الحالي للذكاء الاصطناعي التوليدي على تجميع كميات هائلة من قوة الحوسبة والبيانات والطاقة، وكلها عناصر مطلوبة من أجل تدريب النماذج الكبرى للذكاء الاصطناعي. وبشكل محوري وحاسم اقتضى أمر تجميع تلك العناصر الإمساك بالقدرة على الوصول إلى الرقاقات الأكثر تطوراً في العالم، وبفضل هيمنة الولايات المتحدة على إنتاج تلك الرقاقات عبر شركات مثل “إنفيديا” و”إيه أم دي”، استطاعت حكومة الولايات المتحدة تشديد ضوابط التصدير وبالتالي تقليص الوصول إلى تلك العناصر بشكل صارم، وعلى نحو خاص تحاول الولايات المتحدة إعاقة التطور المحلي للذكاء الاصطناعي في الصين عبر قطع إمداداتها من الرقاقات المتطورة والمعدات والمكونات اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات المتطورة. الهيمنة الأميركية على التكنولوجيا ليست حصينة بصورة مطلقة في المقابل تجد واشنطن نفسها في مرحلة صعبة من تلك الإستراتيجية في المنع والتقييد، وعلى رغم موجة من الضوابط التي قادتها أميركا على الرقاقات فقد تمكنت الصين من إنتاج أنواع عالية الكفاءة والأداء من مسرعات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في مراكز البيانات، بفضل شركتي “هاي سيليكون” HiSilicon التابعة لـ “هواوي“، و”إس أم آي سي” SMIC اللتين تعتبران رائدتين في مجالي التصميم والتصنيع، على التوالي، للرقاقات في الصين. وقد أنتجت الشركتان رقاقة معالجة البيانات “آسند 910 سي” Ascend 910C التي تكاد تصل إلى مستوى رقاقات “إنفيديا” من نوعي “آتش 100″ H100 و”إيه 100” A100، وعلى رغم ذلك كله لا يزال الإنتاج الصيني متأخراً جداً عما تنتجه “شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات” Taiwan Semiconductor Manufacturing Company، اختصاراً “تي إس إم سي” TSMC، التي تستخدم التقنيات الأكثر تقدماً كي تنتج الرقاقات الإلكترونية الأعلى تقدماً تكنولوجياً. لقد أُغرق المهندسون الصينيون بما ضخته إليهم الدولة من مصادر كي يشقوا لأنفسهم طريق الابتكار بعيداً من القيود الأميركية المفروضة على صناعة الرقاقات، ويسير تطور الذكاء الاصطناعي صوب النأي عن تكبير قدرات الحوسبة من أجل تدريب النماذج الكبرى والانتقال إلى التشديد على المواءمة [بمعنى التنسيق بين المكونات والأداء]، بهدف جعل النماذج المسبقة التدريب pretrained models أكثر قدرة على إعطاء أجوبة متقدمة عن الأسئلة. وبالفعل باتت “إنفيديا” وشركات رائدة أخرى تركز بصورة أقل على المستوى الذري لتصغير الترانزستورات في عقد الذكاء التوليدي [وبالتالي في قوة الرقاقات التي يستند إليها] في مقابل زيادة تركيزها على الأداء الكلي لنظام الذكاء الاصطناعي الذي يمتد من تصميم الرقاقات ووصولاً إلى أنظمة التبريد المستخدمة لخفض حرارة المعدات في مراكز البيانات. وحينما أطلقت الحزمة الأولى من الضوابط على الرقاقات الإلكترونية في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، افترض صناع السياسة الأميركيين أن عملية التصغير في عقد الرقاقات تجسد عنق الزجاجة الأساس وبالتالي فإنها تكفي “لتثبيت تجميد” إنتاج الرقاقات الصينية، ومع دخول “هواوي” في قيادة جهود الاعتماد على الذات في الصين، أظهرت الأخيرة أنها لا تزال محتفظة بقدرات في عمليات هندسة الرقاقات مع ما يكفي من قوى العمل والإصرار المثابر للإبقاء على تطور صناعتها في مجال مواءمة الأداء الكلي للنظم المعلوماتية. ومن شأن القلق حيال قدرة أميركا على تكوين فجوة واسعة تبعد الصين من منافستها في تطوير الذكاء الاصطناعي، أن يؤدي إلى ضوابط أكثر وضوحاً وانكشافاً، وتبرّم أكبر حيال الشركاء ممن لا يضبطون سياساتهم بالكامل مع قيود التصدير الأميركية، وتطبيق أسرع لإجراءات تطاول الأمدية الإقليمية خارج أميركا. في ديسمبر (كانون الأول) أصدرت وزارة التجارة الأميركية حزمة من الضوابط على تصدير أشباه الموصلات تعطي مثلاً نموذجياً عن تلك المقاربة، إذ فُرضت فيها قيود واسعة النطاق بغية دفع الشركاء إلى التناغم وضبط الخطى على إيقاع الإجراءات الأميركية وخنق الإنتاج الصيني، ولكن إذا كانت الشركات الصينية لا تزال قادرة على توسيع نطاق قوتها الحاسوبية، وظلت الفجوات في التوافق بين الشركاء في ما يتصل بضوابط الرقائق قائمة، فمن المرجح أن تتبنى واشنطن عقوبات توازي فرض حصار على “هواوي” وتوسع القيود التجارية لتشمل كبار تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في الصين، ومن شأن ضربة محتملة من هذا القبيل للاقتصاد الصيني وطموحات بكين الجيوسياسية أن تزيد أخطار حرب الذكاء الاصطناعي والرقائق. لعبة المطاردة تفترض الصين أنها تقف على قدم مساواة جيوسياسية مع الولايات المتحدة في عالم ثنائي القطب، وبالنسبة إلى بكين يُعد تطوير الذكاء الاصطناعي السبيل للحفاظ على التكافؤ مع واشنطن والعلاج لتحدياتها الاقتصادية الداخلية، إذ تحوز الصين مجموعة من نقاط القوة تشمل تأثير حجم سكانها وصناعاتها الضخمة مما يعطيها خزاناً هائلاً من البيانات تستطيع الاغتراف منه في تدريب نماذجها للذكاء الاصطناعي، وفرصة لريادة تطبيقات الذكاء الاصطناعي المخصصة للصناعة. وبفضل عدد كبير من الموظفين المستعدين للعمل ساعات طويلة تتنافس شركات التكنولوجيا الصينية الكبرى مثل “علي بابا” و”بايدو” و”ديب سيك AI” و”هواوي” و”تينسنت” مع نظيراتها الأميركية في تطوير نماذج اللغة الكبيرة والبنية التحتية السحابية، وكذلك رصدت الصين مصادر ضخمة لمصلحة مواءمة توليد الطاقة المخصصة لمراكز البيانات، مع ملاحظة أنها باتت الآن القوة الأسرع تطوراً في العالم ضمن مجال توليد ذلك النوع من الطاقة. وتراهن بكين على أن التمويل الكبير للصناعات القائمة على الذكاء الاصطناعي سيؤتي ثماره، بخاصة إذا دفعت القيود الأميركية المفرطة في التجارة والتكنولوجيا شركاءها بعيداً، مما يؤدي إلى التقارب مع الصين ويفتح أسواقاً جديدة للتكنولوجيا الصينية، ومن منظور الصين يُعد هذا النهج أفضل (وربما الوحيد) أمل للحد من التباطؤ الاقتصادي الأخير وتجنب الخضوع للولايات المتحدة. في المقابل تواجه الصين نقاط ضعف كثيرة أبرزها تلك الموجودة في قدرتها على تطوير المعدات والأجهزة اللازمة لاحتفاظها بالقدرة على منافسة الولايات المتحدة، وفي المقابل يدأب اختصاصيو التكنولوجيا الأميركيون على صنع رقاقات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد الكفاءة، وكذلك الحال بالنسبة إلى آليات صنع نماذج الذكاء الاصطناعي. واستطراداً يفرض ذلك الإيقاع الأميركي على الشركات الريادية الصينية تخصيص جهود إضافية مع مصادر ضخمة كي لا تحقق سوى مجرد استمرارية القدرة على إنتاج الرقاقات، فيما يفضي تشديد الضوابط الأميركية إلى تقليص وصول تلك الشركات إلى المكونات الأساس اللازمة في صناعة التكنولوجيا. واستكمالاً ستؤول تلك الجهود الإضافية المبذولة إلى وضع صعوبات في وجه قدرة الصين على الاستمرار في سباق الابتكارات، وكذلك سيواجه مطورو الذكاء الاصطناعي الصينيون تحدياً مزدوجاً قوامه السعي إلى تحقيق اختراقات كبرى في الابتكار في ظل التعامل مع الضوابط والقيود الأميركية التي تخنق تلك الابتكارات من جهة، والاستجابة إلى تطلب واضح من الحزب الشيوعي الصيني بأن تستمر نماذج الذكاء الاصطناعي في “تبني القيم الاشتراكية”. وحتى الآن أثبتت الضوابط والقيود التي تفرض بقيادة الولايات المتحدة أنها ليست عصية على الاختراق، وفي المقابل فإن زيادة شراسة الضوابط الأميركية قد تخفض قدرات صناع المعدات الأجانب ومهندسي الرقاقات الإلكترونية والشركات المتقدمة في الاحتفاظ بوجودها داخل سوق الرقاقات الصينية، وإذا عملت الولايات المتحدة على الاستفادة من قوة الدفع التي ولدتها مقاربة “خفض الأخطار” [التي انتهجتها إدارة بايدن] واستمرت في التنسيق الفعال مع الحلفاء، فستجد الصين نفسها مبعدة بصورة متزايدة عن السوق الصاعدة للتكنولوجيا التي تقودها أميركا، ومستثناة من تكتلات تجارية تمارس سياسة قصر حقوق الوصول إلى البيانات والبنى الرقمية التحتية الحساسة على بلدان تتشابه معها في التفكير، وستفضي كل إعادة تنظيم محتملة للتكتلات التجارية إلى نتائج كارثية بالنسبة إلى قدرة الصين على التوسع في الأسواق الخارجية، خصوصاً في وقت تعتمد فيه شركاتها التكنولوجية العملاقة على نموها خارج الإطار المحلي، بهدف التعويض عن الانحدار البنيوي للاقتصاد الداخلي الصيني. وإذا واجهت الصين صعوبة في مواكبة تطور رقائق المعالجات وبدأت بكين تخشى أن يؤدي ذلك إلى تراجعها أكثر في سباق الذكاء الاصطناعي مقارنة بالولايات المتحدة، فقد توجه الدولة عمالقة التكنولوجيا الصينية إلى مركزية وتوسيع مواردها الحوسبية، لكن مثل هذه الخطوة قد تجعل الصين أكثر عرضة للقيود التقنية الأميركية. وحاضراً تمسك شركة “هاي سيليكون” التابعة لـ “هواوي” بناصية القيادة في صنع تصاميم رقاقات الذكاء الاصطناعي، وفي المقابل تشكل “هواوي” الشركة التكنولوجية التي نالت أكبر قدر من الضوابط والعقوبات الأميركية، وتصنع “هواوي” رقاقاتها عبر شركة “إس أم آي سي” التي تملكها الدولة الصينية، وبالتالي فقد باتت عرضة لتطبيق قانون القيود الأميركية المباشرة على منتجاتها، على غرار ما حصل مع “هواوي”، ولقد صممت تلك القيود لمنع وصول المكونات الآتية من أي بلد كان إلى مصانع “إس أم آي سي” التي تنتج الرقاقات الصينية الأكثر تطوراً. وإذا أمرت حكومة بكين مطوري نماذج الذكاء الاصطناعي الصينيين بأن يجمعوا مصادرهم بغية دعم تطور الذكاء الاصطناعي في تلك البلاد، فسيصبحون أيضاً أهدافاً رئيسة لعقوبات أميركية قاسية قد تتكفل بتحطيم جهودهم في توسيع حصتهم في الأسواق خارج الصين، وبالفعل فلقد وسعت الولايات المتحدة قائمة الفئات المشمولة بحظر التصدير كي تشمل مساحة رمادية قوامها الشركات المنضوية في نشاطات الدعم العسكري، وباتت التبريرات اللازمة لتوسيع الضوابط معدة بالفعل ضمن القوانين الأميركية وتنتظر أن تطبق على الأرض. البطاقة الذهبية تملك القوى المتوسطة الحجم وقادة الشركات التكنولوجية الكبرى منظوراً آخر في ما يتعلق بالسباق العالمي في الذكاء الاصطناعي، وينظر كثيرون منهم إلى انتشار التكنولوجيا بوصفه عامل تمكين في الحقبة الجديدة من النظام العالمي المتعدد، ومع دخول الولايات المتحدة والصين في سباق محتدم للهيمنة في الذكاء الاصطناعي، شرعت بلدان مثل فرنسا والسعودية وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة في بناء أنظمة ذكاء اصطناعي سيادية عبر الاستفادة من قواها الوطنية الخاصة التي تشمل السيطرة على الوصول إلى البيانات، والمعرفة الوثيقة المتبادلة باقتصادات بعضها بعضاً، وخبراتها في لغاتها وثقافاتها التي تفيد في تخفيف الانحيازات المسبقة [التي تشتهر بأنها ترافق عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي وخصوصاً التوليدي]. ومثلاً فقد توظف الإمارات ما قد يصل إلى 100 بليون دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة كجزء من سعيها إلى تحقيق هدف البلاد المتمثل في أن تصبح ريادية عالمياً في مجال الذكاء الاصطناعي مع حلول عام 2031، وتعبر تلك المكاسب عن وضعية القلق التي تعيشها القوى المتوسطة الحجم، وكذلك ملاحظتها وجود فرصة لأن تصنع لنفسها مرتبة متقدمة في ظل المنافسة الصينية – الأميركية. وبسرعة فائقة التقط مؤسس “إنفيديا” يانسن هوانغ هذه الوضعية التي يتمازج فيها القلق مع الطموح في أوساط القوى المتوسطة، وقد جال على كندا وفرنسا والهند واليابان وماليزيا وسنغافورة وفيتنام حاملاً معه الرسالة المغرية نفسها، ومفادها أن كل دولة تحتاج إلى إرساء ذكاء اصطناعي خاص بها كي يعبر عن لغتها وثقافتها وطموحاتها. وفي الوقت نفسه صنعت شركة “ميتا” نموذجها اللغوي الكبير المفتوح المصدر في الذكاء الاصطناعي وأطلقت عليه إسم “إل لاما” Llama وتشاركت في إنتاجها المتألق مع بقية العالم، وبسبب استناد “إل لاما” إلى المصدر المفتوح فإنه يسهل نقل ذلك النموذج التكنولوجي ونشره عبر البلدان المختلفة. وكذلك تستفيد “ميتا” من ذلك الانتشار في إضعاف القدرة التنافسية للنماذج القريبة من “أل لاما” والتي تتنافس معه أيضاً، ويشمل الأمر الأخير نماذج “جي بي تي” من “أوبن إيه آي”، و”كلود” من “أنثروبيك”، و”جميني” من “غوغل”، وعلى عكس تفكير خصومهم ممن يرفعون جدران الملكية حول تقنياتهم بغية حماية ابتكاراتهم، يعقد أنصار المصدر المفتوح مثل شركة “ميتا” الأمل على أن يؤدي انتشار منظومة منتجاتهم المتطورة إلى تشجيع تبنيها الواسع على المستوى العالمي، وكذلك الحال بالنسبة إلى عمليات الابتكار بواسطته. وبالنسبة إلى معظم البلدان فيشكل التوصل إلى تحقيق السيادة في الذكاء الاصطناعي أمراً أشد صعوبة بكثير مما يظهره قادة التكنولوجيا، وتستطيع القوى المتوسطة أن ترسي بنى رقمية تحتية للذكاء الاصطناعي، ولكنها ستفعل ذلك على الأرجح باستخدام أشباه الموصلات الأميركية والبنية السحابية الأساس، والاعتماد بصورة كبيرة على المواهب الأميركية ونماذج الأساس للذكاء الاصطناعي الأميركية المنشأ. إن التفوق المتفرد والمهيمن للتكنولوجيا الأميركية يمكّن واشنطن من فرض شروط على شركائها على غرار استثناء الشركات الصينية من سلاسل إمداداتها ومنع الصينيين من الوصول إلى الأنظمة المصنوعة في أميركا، على أساس أن الشركات الصينية تحمل معها أخطاراً على الأمن القومي الأميركي. وثمة تحد آخر يتمثل في التوصل إلى مستوى ملائم من التشريعات المنظمة للذكاء الاصطناعي، ويفضل كثير من قادة التكنولوجيا سياسة اللمسة الخفيفة في تشريعات الذكاء الاصطناعي بهدف تمهيد الطريق أمام الشركات الخاصة للابتكار من دون إثقالها بمتطلبات الانصياع للتشريعات التنظيمية، ولكن لا يبدو أن نداءاتهم تتوافق دوماً مع أولويات الحكومة الأميركية في فرض قيود تمنع الصين والبلدان الراغبة في التعاون مع بكين، ومثلاً تثير النماذج المفتوحة المصدر القلق في عقول صناع السياسة ممن يخشون من أن عدم تقييد الوصول إلى تكنولوجيا حساسة قد يؤدي إلى استغلالها أو تسهيل صنعها بأيدي الخصوم. وفي الوقت نفسه قد تحاول بعض القوى المتوسطة التي تفتقد إلى قاعدة محلية تكنولوجية راسخة أن تؤكد أهميتها عبر تمرير تشريعات من شأنها خلق معيار عالمي مفروض بقوة الأمر الواقع في الذكاء الاصطناعي، وفي أغسطس (آب) 2024 أُقر تفعيل “قانون الاتحاد الأوروبي عن الذكاء الاصطناعي” EU AI Act، وبات أول قانون شامل عن الذكاء الاصطناعي في العالم، وقد جوبه بانتقادات وازنة شملت ما صدر من الرئيس السابق للبنك الأوروبي المركزي ماريو دراغي الذي حذر من أن “المقاربة الوقائية” التي ينتهجها ذلك القانون قد تخطئ هدفها، وبالتالي نصح دراغي باللجوء إلى إزالة القيود التنظيمية بهدف “إغلاق الفجوة في الابتكار مع الولايات المتحدة والصين”. التفاوض حول الرقاقات في الأقل يمثل ما بات موضوعاً على المحك رؤى متنافسة عن النظام العالمي، وبالتالي سيسعى المتنافسون إلى بذل قصارى جهدهم للإمساك بناصية التفوق، وسيترتب على ذلك تداعيات شتى غير مقصودة، وقد تتوفر حماسة فائضة لدى المشرّعين الأميركيين في فرض ضوابطهم، ومثلاً إذا سعت واشنطن إلى فرض نظام النسب المحددة مسبقاً أو الـ “كوتا”، على عدد رقاقات الذكاء الاصطناعي الأميركية الصنع التي تستطيع البلدان الأخرى شراءها، فقد يطيح ذلك بفائدته المرجوة في فرض اعتماد إستراتيجي على التكنولوجيا الأميركية في الأسواق العالمية السريعة التوسع، وربما يستهين مسؤولون أميركيون بقوة الدفع التي تولدها الابتكارات الصينية التكنولوجية. وفي حال الركون إلى الثقة الزائدة بفاعلية ضوابط التصدير فقد يرصد أولئك المشرعون بصورة غير ناضجة مساحات عدم كفاءة الرقاقات التي تنتجها شركة “إس أم آي سي” الصينية، ويتخذوها برهاناً على نجاح سياساتهم، وفي تلك الحال قد يُغفلون ملاحظة الخطوات والمبادرات الكبيرة للموردين الصينيين والمدعومة بكثافة من الدولة، وكذلك الحال بالنسبة إلى مطوري النماذج الصينية التأسيسية الكبرى التي تنهض بها شركات مثل “ديب سيك إيه آي” و”علي بابا” الذين سيجمعون ما يكفي للتوصل إلى قوة حوسبة عالية التقدم تستطيع المنافسة مع تلك التي يمتلكها أندادهم الأميركيون. وإذا توصلت واشنطن إلى الاعتقاد بقرب تلاشي الفجوة التكنولوجية بين القوتين العظميين فستلجأ إلى إجراءات أكثر مباشرة وانكشافاً، ويرجح أن يتضمن ذلك فرض عقوبات الحظر الشامل على “هواوي” وقيوداً فائقة القسوة على بقية شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، وإذا حُرم العملاق الصيني من أسواق خارجية فيما يتضعضع نموذجه الداخلي المستند إلى سلطة الدولة، فإن بكين القلقة قد تفسر تحركات الولايات المتحدة بوصفها تهديداً وجودياً، مما يخلق ظروفاً لانتقال حرب التكنولوجيا إلى المجال الأمني. وقد يأتي رد القيادة الصينية على ذلك عبر قيود تجارية مكثفة إضافة إلى تحركات تصعيدية في مجالات أخرى، وإذا افترضت أن واشنطن قد تحاول تجنب حرب مباشرة، فربما تعمد بكين إلى اختبار حدود إرادة خصمها عبر مناورات جدية تتحرك في مساحة رمادية وملتبسة ضمن مضيق تايوان، ومثلاً قد تفرض عزلاً جمركياً يهدف إلى تأكيد سيطرة دولة البر الصيني على موانئ تايوان وتتحدى السيادة السياسية لتلك الجزيرة، وربما تولد عن تلك الخطوة تداعيات دراماتيكية لا تقتصر على مستقبل أشباه الموصلات وسلاسل إمداداتها التي ستعاني مع هجرة الاستثمارات والمصادر من تايوان، بل ستطاول توازن القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي الوضع الحاضر يتكفل التفاؤل الجامح لقادة التكنولوجيا بإبقاء ثورة الذكاء الاصطناعي مستمرة، فيما تنعقد الآمال على أن انتشار التكنولوجيا سيغير الإنسانية، وفي الوقت نفسه سيستمر قلق صناع السياسة الذين يرون أن الأخطار الاقتصادية والأمنية جاثمة في الأمكنة كلها، وبالتالي سيتابع أولئك الساسة بذل الجهد لتحويل المنافسة في الذكاء الاصطناعي إلى لعبة صفرية بالنسبة إلى تحقيق الأهداف في الجغرافيا السياسية. ويعترف الجميع بأن القوة ستتجمع بين أيدي من يمسكون بمفاتيح تطوير الذكاء الاصطناعي وتوظيفه وانتشاره، وفيما تخوض البلدان والشركات التكنولوجية العملاقة مناورات لتعديل أوضاعها فإن العاصفة التي ترافق تلك التحركات في الجغرافيا السياسية الدولية قد تتفوق على الإمكانات التغييرية الكامنة في التكنولوجيا. مترجم عن “فورين أفيرز”، 27 ديسمبر (كانون الأول) 2024 المزيد عن: فورين أفيرزالذكاء الاصطناعيالصينالعلاقات الصينية – الأميركيةالولايات المتحدةهواوي 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عودة يوسف حبشي الأشقر رائد الرواية اللبنانية الحديثة next post هزائم “الدعم السريع” هل تشير إلى قرب حسم الحرب السودانية؟ You may also like حازم صاغية يكتب عن: مسألة «الصراع» و«القضيّة» اليوم! 12 يناير، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: نهاية الحروب اللبنانية... 11 يناير، 2025 رضوان السيد يكتب عن: سوريا بعد الأسد واستقبال... 10 يناير، 2025 ابراهيم شمس الدين يكتب عن: هوية الشيعة الحقيقية... 10 يناير، 2025 منير الربيع يكتب عن: “الوصاية” الدولية-العربية تفرض عون... 10 يناير، 2025 لماذا يسخر ترمب من كندا بفكرة دمجها كولاية... 9 يناير، 2025 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: هل مسلحو سوريا... 9 يناير، 2025 حازم صاغية يكتب عن: لا يطمئن السوريّين إلّا…... 9 يناير، 2025 ديفيد شينكر يكتب عن: لبنان يسير نحو السيادة... 9 يناير، 2025 غسان شربل يكتب عن: إيران بين «طوفان» السنوار... 7 يناير، 2025