المفكر الفرنسي الموسوعي رولان بارت (اندبندنت عربية) ثقافة و فنونعربي رولان بارت من بريخت إلى موت المؤلف: حياة عادية لفكر استثنائي مدهش by admin 25 أبريل، 2020 written by admin 25 أبريل، 2020 389 مضت 40 سنة على مقتل “العقل الأكبر الذي أنجبته الثقافة الفرنسية” إثر حادث سير مريع اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في الوقت نفسه تقريباً الذي كانت دار النشر الباريسية “لو سوي” توزع كتابه الأخير “الغرفة المضيئة” على المكتبات، صَدم سائق شاحنة كان يعبر شارع “المدارس” وسط العاصمة الفرنسية على بعد أمتار من مدخل “الكوليج دي فرانس”، من لم يكن بالنسبة إليه سوى رجل في الخامسة والستين من عمره بالكاد يبدو في تلك السن بأناقته وقامته المنتصبة وخطوته النشطة وجرأته في عبور الشارع وسط زحام السير. حدث ذلك في الخامس والعشرين من فبراير (شباط) 1980. وبالطبع لم يكن السائق يعرف من هو ذلك الرجل، كما أنه طوال الشهر الذي ظل فيه الرجل يقاوم الموت قبل أن يستسلم أخيراً ويهزمه هذا الأخير في السادس والعشرين من الشهر التالي، من المؤكد أنه لم يعرف عنه إلا القليل، والمؤكد أن القليل الذي عرفه لم يكن يهمه. ما كان يهمه هو أن الرجل سقط ضحية للحادثة. حين كان يُقال له إن الضحية يُدعى رولان بارت كان من الواضح أن الاسم لا يعني له شيئاً. له على الأقل، لكنه كان بالطبع يعني الكثير لنخبة من مثقفين اعتادوا تلقي دروسه وقراءة كتبه ومتابعة سجالاته، هم الذين كانوا متفقين على أنه العقل الأكبر الذي أنجبته الثقافة الفرنسية في العصر الحديث. الموت القبيح كان أمراً في غاية السوء والقبح أن يموت رولان بارت على ذلك النحو قبل أربعين عاماً من أيامنا هذه. وتحديداً في وقت راحت فرنسا تفقد مفكريها الكبار واحداً وراء الآخر، لا سيما جان بول سارتر كبيرهم الذي سيرحل بدوره بعد أقل من شهر من رحيل بارت، وميشال فوكو الذي رحل بداء السيدا، لكن رحيل سارتر كان حدثاً في تاريخ فرنسا بالطبع. أما رحيل بارت فكان كما حال رحيل فوكو، حدثا في تاريخ الحياة الثقافية لا أكثر، فهو لم تكن له شعبية سارتر وجرأته ونضاليته، وما كانت له تدّخلية ميشال فوكو في الحياة الفكرية والنضالية، ولا مكانة ريمون آرون في الحياة السياسية. كان بارت يكتفي بمكانته في الفكر التي لم تكن لتقلّ عالميّة عن مكانة أي من هؤلاء على أية حال. ففي مرحلة ما بعد سارتر حين ازدهر ما سمي بـ”الفكر النظري الفرنسي” في أنحاء عديدة من العالم انطلاقاً من أميركا التي حضن كبار مفكريها ذلك التيار، كان من الواضح أن الاسم الأول الذي يخطر على البال حين الحديث عن ذلك التيار كان اسم رولان بارت. والأهم من هذا أن شهرته عمّت الأوساط الفكرية والثقافية الفرنسية والأجنبية منذ وقت مبكر، وتحديداً منذ صدور كتابين أولين له انتشرا وتُرجِما إلى العديد من اللغات وقُرِئا على نطاق واسع: “أسطوريات” و”الكتابة عند درجة الصفر”. منذ ذلك الحين بدا واضحاً أن بارت قد أتى بجديد، بل إنه راح كتاباً بعد كتاب، يجدّد ذلك الجديد طوال ربع قرن أو يزيد جاعلاً لنفسه مكانة كبيرة في الفكر النقدي الحديث، بيد أنها لم تكن مكانة شعبية على أية حال. كانت مكانة نخبوية بالتأكيد في اهتمامها بمروحة عريضة من الأنواع الأدبية، بدءاً بالمسرح وصولاً إلى النظريات النقدية، والتحليلات الأدبية من دون أن يفوته المرور على مفاهيم الفلسفة وعلم الاجتماع والصورة بما هو ثابت منها أو متحرك، والأزياء والفن التشكيلي والموسيقى، وكان غزير الإنتاج إلى درجة أن دور النشر لا تزال إلى اليوم، بعد أربعين عاماً على رحيله، تصدر كتباً له لم يسبق صدورها، من كتابةٍ ذاتية، إلى تنظيرات حول “موت المؤلف”، إلى تدخّل في الدراسات الأكاديمية، واللائحة تطول. وحسبنا هنا أن نذكر أن آخر ما صدر قبل شهور من الآن لبارت، سفر في نحو 800 صفحة لا يضم سوى دروس سنتين ألقاها في “الكوليج دي فرانس” ينحصر موضوعه في كيفية تحضير الكاتب لكتابة روايته، لا أكثر! وهذا الكتاب وحده يضم عدداً من الصفحات يفوق عدد صفحات السيرة اللامعة التي كتبتها إحدى تلميذاته، تيفاني ساموايو له، ومن اللافت أن هذه السيرة صدرت في طبعات عدة حتى الآن لتبيع خلال أقل من خمس سنوات أكثر مما باعته كتب عديدة أخرى له مجتمعة. والحقيقة أن السؤال الذي دار على الألسن يوم صدور السيرة كان حائراً: من أين أتت الكاتبة بأحداث ملأت صفحات الكتاب الثمانمئة، فالمعهود عن بارت أن حياته، على عكس حيوات سارتر أو كلود ليفي ستروس أو حتى فوكو، لم تكن حافلة بالأحداث والتقلبات! مهما يكن من الأمر، من الواضح أن الناس الذين باتوا خلال العقود التالية على رحيل بارت، يعرفون الكثير عن فكره واعتادوا قراءته ولو في كتبه الأكثر سهولة كـ”أسطوريات”، والأكثر شعبية رغم صعوبته مثل “الكتابة عند درجة الصفر”، ثم لاحقاً عمله الأكثر انتشاراً “مقاطع من خطاب العشق”، وصولاً إلى كتابه عن راسين وعن بلزاك، كانوا دائماً على ظمئهم للتعرف إليه هو شخصياً. تلك الحياة الأكاديمية “المستقيمة” وكما كان في إمكاننا أن نشير، كانت حياة رولان بارت بسيطة تكاد تكون خطّية. وُلد في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1915 في مدينة شربورغ بمقاطعة النورماندي في الغرب الفرنسي لأب كان بحاراً على السفن التجارية، وحين جُنّد في الحرب العالمية الأولى قُتل في إحدى معارك بحر الشمال، تاركاً أم ابنه الصبية هنرييت للعناية بالطفل فاصطحبته إلى بايون في الجنوب الفرنسي، لكنها ما لبثت أن صعدت به إلى باريس حيث ما لبثت أن أنجبت له نصف شقيق، فيما تمكنت من إلحاقه بمدرسة “لوي ليغراند” حيث لم يدرس سوى أربع سنوات قبل أن يُصاب بمرض رئوي اضطر أمه للانتقال به إلى الجنوب مرة أخرى ريثما يداويه الطقس الدافئ. وهي ستعود بطفليها بعد ذلك إلى باريس في عام 1935 حيث سيتجه رولان لدراسة الأدب الكلاسيكي، ثم يهتم بإنشاء فرقة مسرحية في جامعته السوربون ما حدّد بدايات اهتماماته المسرحية التي سترافقه لأزمان طويلة مقبلة. وفي عام 1941 عشية عودة السُل إليه نجده يناقش أطروحة دبلوم الدراسات العُليا حول “التراجيديا الإغريقية”، وذلك بعد فترة التحق خلالها مدرّساً في بياريتز ثم في باريس. لكن السنوات الخمس التالية وحتى 1945، أي طوال سنوات الحرب العالمية الثانية، ستكون بالنسبة إليه سنوات معاناة مع المرض والاحتلال والحزن لفقدان جان فيال، الذي كان صديقاً مقرباً منه شاركه في أعماله المسرحية الجامعية الأولى، وها هي “الجستابو” تغتاله اليوم في مدينة مارسيليا. في تلك الآونة كان بارت قد قرّر أن يدرس الطب، لكنه سرعان ما عدل منصرفاً إلى قراءة أعمال مؤرخ الثورة الفرنسية جول ميشليه التي فُتن بها إلى درجة قرر أن يقدم أطروحة جديدة عنه إلى السوربون. وبعد الحرب راح يكتب في صحيفة “كومبا” تحت إشراف موريس نادو الذي سيصبح من أقرب أصدقائه، قبل أن يتوجه إلى رومانيا حيث عُيّن مُدرساً للفرنسية ثم ملحقاً ثقافياً. وهو انتقل من هناك إلى مدينة الإسكندرية في مصر، حيث تابع مهنته كأستاذ جامعي مرتبطاً بصداقات مع عددٍ من الباحثين المجايلين له من الذين سيشغلون مكانة هامة في الثقافة الفرنسية لاحقاً (غريماس وألغريداس) من الذين شجعوه على وضع كتابه الأول “الكتابة عند درجة الصفر”، الذي لن يصدر إلا في عام 1953 لدى منشورات “لو سوي” التي ستبقى ناشرته حتى بعد مماته. بارت مع عدد من المثقفين أمام قصر الإليزيه في باريس عام 1979 (أ.ف.ب) ولادة “أسطوريات” بعد عودته إلى باريس نجده يشغل منصباً في الدائرة الثقافية بوزارة الخارجية الفرنسية، ثم يلتحق متدرباً في المركز الوطني للبحث العلمي في وقت راح يتابع نشر مقالاته، لا سيما في “كومبا” قبل أن يبدأ بنشر مقالات “أسطوريات” التي ستصبح ذات شهرة ومكانة كبيرتين انطلاقاً من كتابة أسبوعية تتناول بالتحليل السوسيولوجي واللغوي أيضاً عدداً من مظاهر الحياة الفرنسية الأكثر تنوعاً، من سيارة “سيتروين” إلى الملاكمة إلى ماركات الصابون إلى بعض الجرائم وتناول الصحافة الشعبية لها، وصولاً إلى تسريحة شعر الجنود الرومان في الأفلام التاريخية مروراً بغريتا غاربو وصور النجوم كما كان ينتجها استديو “هاركور” الشهير. ولقد نشر بارت هذه المقالات في مجلة “الآداب الجديدة” أواسط سنوات الخمسين، بالتوازي مع إسهامه في إصدار مجلة “المسرح الشعبي” (تياتر بوبولير) التي سرعان ما ستمكّنه من متابعة عروض مسرحيات لبريخت ستكون هي نقطة انعطاف جديدة في حياته النقدية، لا سيما حين شهد عرضاً باريسياً قدمته فرقة “برلينر إنسامبل” لـ”الأم كوراج” في عام 1954 من تمثيل هيلينا فايغل زوجة بريخت الذي كان حاضراُ العرض. ومنذ ذلك الحين لم يعد بارت مجرد كاتبٍ وباحثٍ بل صار مساجلاً أيضاً، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون السجال الأول الذي خاضه، مع ألبير كامو حول رواية هذا الأخير “الطاعون”، التي كتب عنها مقالاً عنونه على صيغة سؤال “حوليات وباء أو رواية العزلة؟”. وهكذا مع ما كتبه عن “الأم كوراج” كما عن رواية كامو، قفز اسم رولان بارت ليصبح جزءاً أساسياً من الحياة النقدية في فرنسا، ولسوف يأتي نشر كتابه “أسطوريات” في عام 1957 مع ملحق نظري له بعنوان “الأسطورة اليوم”، ليعزز مكانته ودوره في حياة أدبية كانت لا تزال تنتظر ناقداً مثله، يجدّد لا لمجرد التجديد، بل لأنه يعرف أن الأزمان الجديدة تحتاج كتابة جديدة. وخلال ربع القرن التالي الذي ستمنحه إياه الحياة حتى حادثة السيارة السخيفة التي أودت به وهو في عز عطائه، لن تعرف حياة بارت الكثير من التقلبات أو “الخبطات المسرحية”، لكنها ستعرف الكثير من إعادات النظر والتأرجح بين ماركسيته التأسيسية وبنيويته المبتسرة وتفكيكيته غير الواضحة وصولاً إلى خصوصيةٍ في كتابته تبدو عصية على التصنيف. ستعرف تزايداً كبيراً في عدد قرائه وفي وتيرة نشره كتبه، وستراه مُدرساً للأدب حيناً في اليابان ثم في بالتيمور الأميركية وصولاً إلى الرباط في المغرب، وستتنوع كتبه ودراساته من كتاب عن ميشليه، هواه الأول، إلى كتابه عن بلزاك، فنصّه عن راسين الذي جدّد بشكل مدهش في الدراسات الراسينية، ثم كتاباً مفاجئاً عن “ساد، فورييه، لويولا” أتبعه بـ”دراسات نقدية جديدة”، ثم خصوصاً كتابه “بارت عن بارت” الذي يحتوي نوعاً من سيرة فكرية له تحاول أن تبسِّط أفكاره في وقت كان مناوئوه يرون أن لغته تزداد صعوبة وأفكاره تصبح أكثر تعقيداً، إلى درجة أن الأستاذ الجامعي المجهول تماماً في ذلك الحين، ريمون بيكار، ما إن صدرت الدراسة التجديدية التي وضعها بارت عن راسين، حتى انتفض كالمذعور، وهو الذي كان يرى أن راسين مِلكٌ للجامعة لا يجوز الدنو منه، ليكتب ضد الكتاب وصاحبه دراسة تحمل عنواناً مدهشاً “نقدٌ جديد أم احتيال جديد؟”. ثم تلا ذلك كاتبان هما ميشال أنطوان بورنييه وباتريك ريمبو دخلا المعركة ضد بارت بكتاب ساخر عنوانه “رولان بارت دون تعب”، وكان أغرب ما فيه أنه ركز هجومه على كتاب “الكتابة عند درجة الصفر” الذي كان قد مضى على نشره 25 عاماً وبات كلاسيكيا. كان رولان بارت غزيز الإنتاج واهتم بالفن التشكيلي والموسيقى (اندبندنت عربية) الصمت كنوع من الرد والعمل المتواصل غير أن ردود بارت على ذلك النوع من الدراسات كانت عابرة، فهو كان يرى أن لديه من المشاغل الكثيرة ما يمنعه من إضاعة وقته بخوض ذلك النوع من المعارك مع “طالبي الشهرة”، وحسناً فعل بالتأكيد حيث إن الكتب والدراسات التي واصل إصدارها هي ما سوف يبقى منه بعد رحيله بالطبع! مهما يكن، نعرف اليوم أن المتأثرين بأفكار بارت كانوا أكثر أهمية بالنسبة إلى الحياة الثقافية في فرنسا والعالم من أولئك الذين ناوءوه، حتى إن كان بعضهم حقق من خلال ذلك شهرة فمن الواضح اليوم أنهم لم يكونوا يستحقونها. أما بالنسبة إلى بارت، الذي يمكننا فيما يتبقى لنا من مساحة هنا أن نسبر كيف أن حياته الفكرية كانت أهم بالنسبة إليه من الحياة الاجتماعية التي لعل أهم ما شهدته هو تلك السفرات العديدة التي راح يقوم بها بناء على دعوات راحت توجه إليه، ولعل أهمها الرحلة التي قام بها إلى الصين في رفقة عددٍ من زملائه الكُتَّاب ومن بينهم آلان روب غرييه وفيليب سوليرز وجوليا كريستفا وغيرهم، وهي رحلة كتب عنها نصاً في غاية الجمال، لا يكاد يضاهيه في قوته كتعبير عن الذات سوى كتابه “يوميات الحداد” الذي دوّن فيه بعض خواطره يوم مرضت أمه التي كان متعلقاً بها، ثم ماتت. بعد هذا نعود إلى سؤال أساسي هنا: ما الذي يبقى من رولان بارت؟ بالتأكيد أعماله وكتابته، فهو الذي رأينا في ما سبق كم أن حياته الخاصة كانت من البساطة والخطّية بحيث تبرر السؤال الذي طرحناه حول “من أين جاءت مؤلفة كتاب سيرته بأحداث ملأت صفحاته؟”. أما أعماله الكتابية فلا شك أنها تملأ، فيما صدر منها حتى الآن بضعة ألوف من صفحات غنية تتميّز بذكاء وتجديد وجرأة نظرية قل نظيرها. وحسبنا هنا أن نطلّ ولو على جزء من تلك الأعمال كي يُفهم ما نقول. ففي الجزء الأول الذي نكتفي بالتوقف عنده هنا من تلك الأعمال التي راحت مجلداتها تصدر تباعاً بعد سنوات من رحيل الكاتب، وهو مجلد أتى ليضم كتابات بارت بين عامي 1942و1965، (بينما ضم الجزء الثاني كتابات الأعوام بين 1966 و1973، والثالث كتابات مرحلة 1974-1980)، ربما يمكننا العثور على ما سيمكن اعتباره أهم الأجزاء الثلاثة على الإطلاق على الأقل بالنسبة إلى الدارسين، ليس لأنه يضم نصوصاً أساسية وتأسيسية لبارت مثل “الكتابة في درجة الصفر” و”حول راسين” و”حول ميشليه”، إضافة إلى كتابه الأشهر “أسطوريات”، بل لأنه يقدم النصوص الأولى، شبه المجهولة، لكاتب كان قد بات من الشهرة منذ أواسط سنوات الستين، بحيث إن كتاباته خلال العقدين الأخيرين من حياته، كانت قد باتت معروفة، بل صار طابعها سجالياً حاداً، في وقت كان بارت يكرِّس الجزء الأكبر من وقته وكتاباته لخوض سجالات كانت قد بدأت تفقد رونقها الأول وعنصري الاكتشاف والجدة اللذين طبعا كتاباته الأولى. وحسبنا قراءة العديد من نصوصه الأولى، كما جاءت في المجلد الأول للتيقن من الجديد والهام الذي بدأ بارت يدخله إلى ساحة النقد الفرنسي منذ سنوات الأربعينيات. تاريخ للتقلبات الفكرية! والحال أن نصوص هذا المجلد تفيد أيضاً في مجال آخر، حيث من المعروف أن بارت تقلب في توجهه الفكري منذ بداياته حتى نهاياته، بحيث فقد قراؤه الخيط الذي كان يصلهم بكتاباته ويمكّنهم من فهم الدافع الفكري أو الأيديولوجي الذي يطبع تلك الكتابات ويقودها، فيما كانوا يقرأونه في زحمة السجالات والصخب. أما اليوم، مع المسافة الزمنية التي تفصلنا عن بدايات بارت، وكذلك عن رحيله، إذ تحول الرجل من قضية إلى تاريخ، بات فهمه وفهم الخيوط التي تربط أعماله إلى بعضها البعض أمراً أكثر يُسراً. غير أن الأهم من هذا كله أن مئات الصفحات التي يقدمها لنا هذا المجلد تكشف لنا تنوع فكر بارت وغناه، فهو الذي كان يكتب كما أشرنا أعلاه، عن المسرح والسينما، والشعر والنقد، والمجتمع والأزياء، وعن ساد وبيتهوفن، وبريخت وراسين، ودائماً بنفس القوة وبنفس الحس الساخر والنقدي الذي انطبعت به كتاباته، لا سيما كتاباته القصيرة التي ضمها كتابه الشهير “أسطوريات”, والحال أن نصوص هذا الكتاب إذ تقرأها اليوم بعد كل هذه الغيبة الطويلة، إن كنت من قرائها في الماضي، سيفاجئك فيها مدى صوابية نظرة بارت، وليس هذا وحسب بل كذلك مدى حداثته. ففي هذه النصوص القصيرة التي راح فيها يتناول شتى ظواهر الحياة اليومية وصولاً حتى إلى ظاهرة ألفيس بريسلي إلى علبة سجائر “الغولواز”، ومن مارلين مونرو إلى سهرات “الميوزيك هول”، ومن الملاكمة إلى بيت البلاستيك، ومن التنجيم إلى قواعد النحو الأفريقية. ففي هذه النصوص كشف رولان بارت وبكل يسر عن شتى عيوب ونواقص المجتمع الذي يعيش فيه، بل تحدث عن أمور كانت تبدو حين كتابته عنها في منتهى الغرابة، لكنها أضحت اليوم من الظواهر المألوفة. لقد كان بارت رائداً في إلقاء نظرة فاحصة على شؤون الحياة الصغيرة، ورائداً في جعل مجموع النظرات التي ألقاها، قادرة على قول الكثير، حتى إن تميزت كتاباته هو عنها بحياديةٍ ظاهرة، بحيث نراه في نصوصه يعرض ويحلل متعمداً ألا يُطلِق أي حكم. من الملفت بالطبع أن بارت، في كتاباته التي تغطي العقدين الأولين من نشاطه الفكري كان يهتم أكثر بالمسرح، وكان جل اهتمامه يسير في اتجاه مسرح بريخت الذي دافع عنه في فرنسا دفاعاً مجيداً، غير أن هذا لم يمنعه من أن يكون أول الذين يكتبون عن مسرحي مضادٍ للبريختية هو صمويل بيكيت، حيث لفتته مسرحية هذا الأخير الأولى “في انتظار غودو” منذ وقت مبكر، فكتب بعد عام ونصف العام من عرضها الأول نصاً في غاية الجمال تحت عنوان “غودو بالغاً”، تساءل فيه عن ذلك السحر الغريب الذي حوّل المسرحية من عملٍ طليعي إلى مسرحية شعبية، وراح يحلل كيف أن تدفق الجمهور لمشاهدة المسرحية (100 ألف متفرج خلال 400 عرض لمدة عام ونصف العام)، قد أدى إلى إحداث تبدلٍ أساسي في المسرحية نفسها، ويقول “في البداية، يمكن القول إن الجمهور قد تمكن من تحويل هذه المسرحية إلى مسرحية هزلية. قبل ذلك، عند تقديمها للمرة الأولى، لم يكن كبيراً عدد النقاد الذين تنبهوا إلى البُعد الهزلي فيها. اليوم صارت مسرحية غودو تُضحك الناس من دون حرج ما يكشف في رأي بارت، عن أن الممثلين تركوا أنفسهم ينساقون وراء رد فعل المتفرجين عليها”. والحال أن هذه العلاقة بين جوهر العمل الفني وأساليب تلقي المتفرجين له، كان يشكل على الدوام هاجساً أساسياً من هواجس بارت، نلمحه من خلال المساجلة التي قامت بينه وبين ألبير كامو بصدد المقال الذي كان هو قد كتبه عن رواية “الطاعون”، ورد عليه كامو رداً قاسياً، فإذا ببارت يساجل كامو سجالاً لن يدهشنا اليوم أن نلاحظ أن بارت كان الأكثر إقناعاً فيه. في أثناء رحتله إلى الصين برفقة عددٍ من زملائه (اندبندنت عربية) انتصارات رجل وحيد ترى أَفَلَمْ يكن واقعَ أن بارت كان من الذكاء والدقة بحيث كان غالباً ما يتغلب على مساجليه، هو الذي يكمُن وراء العداء الذي كانت الأوساط الأدبية في فرنسا تكنه له وتجاهره به؟ لقد ظلّ بارت لفترة طويلة من الزمن مستبعَداً ومهمشاً من قِبل المثقفين الفرنسيين. فهؤلاء، وحتى الأكثر حداثة من بينهم، كانوا غالباً ما يفضلون الوقوف عند المواقع المكتسبة بدلاً عن خوض لذة الاكتشاف والتحليل. وبارت كان من الملتذين دائماً بالاكتشاف. ومن هنا كان وأكثر من معاصريه فوكو ولاكان بكثير، دائم الإرهاص بالحداثة. ولعل هذا ما كان يدفعه بشكل متواصل إلى إحداث تبديل في مقتربه النظري، ومن ثم في مواقفه الأيديولوجية، حيث نراه باكراً يهتم بالنقد الموضوعي القائم على أساس نقد مضمون العمل، كما في كتابه “ميشليه بقلم ميشليه”، أو كما في معظم تحليلاته لمسرحيات بريخت ولعدد من المعارض الفنية، ومثل هذا بالطبع في نصه الذي كان أول نص ينشر له وعنوانه “الثقافة والفاجعة”، وهو النص الذي أتبعه بعد فترة بآخر حول “أندريه جيد ويومياته”، ثم بنقدٍ قاسٍ لفيلم لروبير بريسون. غير أن توجهه الموضوعي سيتحول إلى توجه سيكولوجي لدى كتابته عن جان راسين في عام 1963، وذلك قبل أن يصل إلى البنيوية الأكثر تجلياً في كتابه “نظام الموضة” عام 1967. ومثل هذا المسار نرصده كذلك في مجال آخر، حيث نلاحظ أن بارت من الدفاع المستميت عن بريخت خلال سنوات الخمسين، ينتقل إلى تبني “الرواية الجديدة” وآلان روب غرييه في سنوات الستين، ثم ينصرف إلى تبني نظرية جمالية خالصة في أحد آخر وأشهر كتبه “مقاطع من خطاب العشق”. هذا التطور الذي كان خصومه يرون فيه تقلباً غير سعيد، كان السبب الذي دفع بارت دائماً نحو الهامش، متبعاً طريقاً يختلف كل الاختلاف عن الطريق الذي اعتاد المثقفون الفرنسيون اتباعه. ولئن كان هذا قد أثار من حوله زوبعة عداء المثقفين المكرّسين، فإنه جعل له شعبية كبيرة في أوساط الطلاب وصغار المثقفين، شعبية جعلته يعتبر، إلى جانب لاكان وفوكوو وكلود ليفي ستروس، أحد الرؤوس المفكرة لأيديولوجيات اللا أيديولوجية في مايو (أيار) 1968 بفرنسا. عن التلفزيون و”استغباء” الجمهور بيد أن هذا كله لم يكن قد طرأ بعد خلال الفترة التي تغطيها المرحلة الأولى والتأسيسية من مراحل رولان بارت، فهذا المجلد يتوقف بنا عند عام 1965، العام الذي أصدر فيه كتابه المؤسس للبنيوية في النقد الأدبي “عناصر علم المعاني”، كما نشر فيه نصه الهام “ثقافة الجماهير والثقافة العليا”، الذي يقارن فيه بين الثقافة الأكاديمية والجامعية، وما تقدمه التلفزة ووسائل الاتصال والنثر الشعبية، ويخلص من هذه المقارنة باستنتاجات تخلو من الأحكام القطعية بالطبع تفاجئنا اليوم بمدى استشرافها منذ ذلك الوقت المبكر لمستقبل استغباء الجماهير عن طريق التسطيح التلفزيوني. والمجلد ينتهي بحوار مفيد أجراه مع بارت في أكتوبر (تشرين الأول) 1965 ملحق صحيفة “لو فيغارو” الأدبي تحت عنوان “باسم النقد الجديد”، كان عبارة عن محاولة قامت بها تلك الصحيفة المحافظة للتدخل في سجال كان في ذلك الحين حامي الوطيس بين المثقفين اليساريين حول النقد الجديد. وفي هذا الحوار، ورداً على سؤال يطرحه عليه صحافي يريد أن يعرف ما إذا كان بارت من أنصار نقد يتطور بفعل الزمن يقول رولان بارت “على أي حال، إنني من أنصار نوع من الانسيابية التاريخية في مسار النقد. إن المجتمع هو الذي يبتكر، من دون توقف أو هوادة، النقد الجديد. أما النقد (الجديد) القائم اليوم فمصيره أن يموت ذات يوم، ولسوف يكون موته أمراً جيداً. بيد أن هذا السجال كله إنما يأتي ليذكرنا بمسرحية هازلة من تأليف أريستوفان. في هذه المسرحية نشاهد سقراط معلقاً في الغيوم، فيما يروح أريستوفان يسخر منه. أما من ناحيتي فإنه إذا كان يتعين عليّ أن أختار فيلسوفاً سوف أختار دور سقراط بالتأكيد”. هذا ما قاله رولان بارت في عام 1965، ولسوف نرى لاحقاً ما إذا كان سيظل خلال العقود المقبلة مناصراً لهذه الفكرة ومفضلاً لدور سقراط. في انتظار ذلك نقرأ صفحات بارت البديعة بشغف، ونستكشف من خلاله رجلاً عرف كيف يطل على زمنه بشكل حاذق وذكي، بل مستشرف للتاريخ أيضاً. تُرى ألم يكن هو الذي كتب في أحد نصوصه القصيرة في كتابه “أسطوريات” أن “التاريخ يتبخر. التاريخ هو نوع من الخادم المثالي يعيرنا ما نحن بحاجة إليه، يحمّلنا ما يلزمنا ويوزع هباته كما يشاء، ثم ما إن يصل السيد إلى البيت حتى يختفي بكل صمت ولا يبقى لنا إلا أن نتمتع بعطاياه من دون أن نتساءل من أين أتى هذا الشيء الجميل؟ بل وأفضل من هذا يمكن القول إن الشيء الجميل لا يأتي إلا من الخلود، من كل الأزمان، وهو دائماً صنع لكي يكون في خدمة الموسرين: فإسبانيا التي يرسمها لنا الدليل السياحي الأزرق صُنعت من أجل السائحين، أما الشعوب البدائية فإنها لم تحضر رقصاتها وتتمرن عليها إلا من أجل متعة المتفرجين المعاصرين المدهوشين”. هكذا كان بارت، وهكذا تقدمه لنا كتاباته التي تأتي لتذكرنا دائماً بكم أن ذلك الموت السخيف الذي حصده يوماً في غفلة عن الزمن، كان موتاً مؤثراً وربما أكثر كثيراً من أي موت آخر طالما نعرف أن ثمة أفكاراً كثيرة كانت لا تزال تشتغل في رأسه الأنيق والذكي تحتاج بعض الوقت أيضاً كي تنتقل إلى الورق. المزيد عن: رولان بارت/فرنسا/بريخت/ألبير كامو/الكتابة عند رجة الصفر/التراجيديا الإغريقية/الصين/باريس/الكوليج دي فرانس 75 comments 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post 105 أعوام على معاداة الأرمن: تركيا “تعالج” التاريخ بالإنكار والتجريم next post عالمة أميركية عن أزمة كورونا: الخفافيش بريئة ونحن المذنبون You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024 75 comments Michal 20 يونيو، 2020 - 11:22 م Awesome post. Feel free to surf to my page other g Reply Lyndon 21 يونيو، 2020 - 11:14 ص I am genuinely grateful to the owner of this site who has shared this fantastic post at here. Feel free to surf to my webpage no g Reply Carey 18 يوليو، 2020 - 5:27 ص Having read this I believed it was very informative. I appreciate you spending some time and effort to put this article together. I once again find myself spending way too much time both reading and leaving comments. But so what, it was still worthwhile! Feel free to surf to my homepage: best web hosting company Reply Lavon 29 يوليو، 2020 - 8:29 ص Thanks for one’s marvelous posting! I quite enjoyed reading it, you will be a great author. I will always bookmark your blog and may come back later on. I want to encourage continue your great work, have a nice afternoon! my page: cheap flights with jet2 Reply Leonora 30 يوليو، 2020 - 10:57 ص It’s remarkable to pay a quick visit this site and reading the views of all colleagues about this post, while I am also keen of getting familiarity. adreamoftrains web host web hosting service Reply Andra 7 أغسطس، 2020 - 4:09 ص Hi! I know this is kind of off topic but I was wondering which blog platform are you using for this website? I’m getting fed up of Wordpress because I’ve had problems with hackers and I’m looking at alternatives for another platform. I would be fantastic if you could point me in the direction of a good platform. my site; web hosting reviews Reply Liza 14 أغسطس، 2020 - 3:01 ص Aw, this was an exceptionally nice post. Spending some time and actual effort to generate a superb article… but what can I say… I procrastinate a whole lot and don’t manage to get anything done. Feel free to surf to my website :: web hosting reviews Reply Trena 25 أغسطس، 2020 - 10:39 ص Thanks designed for sharing such a fastidious thinking, paragraph is pleasant, thats why i have read it fully yynxznuh cheap flights Reply Jaxon 27 أغسطس، 2020 - 3:36 ص Hey! Do you know if they make any plugins to help with SEO? I’m trying to get my blog to rank for some targeted keywords but I’m not seeing very good gains. If you know of any please share. Appreciate it! Here is my web site cheap flights Reply Conrad 30 أغسطس، 2020 - 11:32 م Good information. Lucky me I found your site by accident (stumbleupon). I have saved it for later! My website; black mass Reply Tinder dating site 23 يناير، 2021 - 3:21 ص tinder login, tinder online https://tinderdatingsiteus.com/ Reply dating sites free no registration 31 يناير، 2021 - 9:22 ص dating online free https://freedatingsiteall.com Reply lovoo einloggen 18 مايو، 2021 - 2:17 ص lovoo server problem lovoo vip kosten http://lovooeinloggen.com/ Reply free freaky dating sites 20 مايو، 2021 - 3:32 م best free online dating sites in europe craigslist dating site free http://freedatingfreetst.com/ Reply were is all adult dating sights 20 مايو، 2021 - 3:40 م what’s the cheapest adult dating site adult dating montgomery atlanta http://freeadultdatingusus.com/ Reply marriage not dating 16 يونيو، 2021 - 4:10 م You’ve got one of the greatest sites. https://datingsitesfirst.com/ Reply Online dating 18 يونيو، 2021 - 12:06 ص Exceptionally user friendly site. Enormous information offered on few clicks. https://datingonlinecome.com/ Reply of the items below signify that someone might be experiencing dating violence? 21 يونيو، 2021 - 6:47 م I like reading through your site. Regards! https://datingsitesover.com/ Reply sugar mama dating 21 يونيو، 2021 - 9:04 م I enjoy this website – its so usefull and helpfull. https://onlinedatingtwo.com/ Reply Freya Mobsby 24 يونيو، 2021 - 4:23 م Thanks a lot for sharing this terrific web page. Reply ketodietione.com 24 يونيو، 2021 - 5:02 م say thanks to a lot for your site it aids a lot. http://ketodietione.com/ Reply how do you deal with constipation on the keto diet? 25 يونيو، 2021 - 1:50 ص Hi, awesome web-site you’ve got at this time there. https://ketorecipesnew.com/ Reply wordpress.com 6 يوليو، 2021 - 12:52 ص Five Feet Apart Book Discussion Questions Best Business Books Bill Gates Here is my blog; wordpress.com Reply ps4 games their 22 أغسطس، 2021 - 7:01 م Thanks for your marvelous posting! I definitely enjoyed reading it, you happen to be a great author. I will make certain to bookmark your blog and will eventually come back later in life. I want to encourage you to definitely continue your great posts, have a nice weekend! Reply on ps4 games 23 أغسطس، 2021 - 3:45 م I like it when individuals come together and share thoughts. Great blog, stick with it! Reply ps4 games my 24 أغسطس، 2021 - 11:24 ص My brother recommended I might like this web site. He was entirely right. This post truly made my day. You cann’t imagine simply how much time I had spent for this information! Thanks! Reply зарубежные сериалы в хорошем HD качестве 24 مارس، 2024 - 5:59 ص I’m not sure where you are getting your info, but good topic. I needs to spend some time learning more or understanding more. Thanks for fantastic information I was looking for this information for my mission. Reply глаз бога телеграмм 9 أبريل، 2024 - 10:21 م I like the valuable information you supply in your articles. I will bookmark your weblog and check again here frequently. I am somewhat certain I will be informed many new stuff right here! Good luck for the following! Reply глаз бога телеграмм бесплатно 10 أبريل، 2024 - 11:34 ص An impressive share! I have just forwarded this onto a colleague who had been doing a little research on this. And he in fact bought me breakfast simply because I discovered it for him… lol. So let me reword this…. Thank YOU for the meal!! But yeah, thanx for spending time to discuss this topic here on your website. Reply steam cs live gambling sites 2024 9 مايو، 2024 - 12:34 ص Greetings! Very helpful advice within this article! It is the little changes that produce the most important changes. Thanks for sharing! Reply new csgo gamble websites 2024 9 مايو، 2024 - 11:51 ص You’ve made some good points there. I looked on the internet for more info about the issue and found most individuals will go along with your views on this website. Reply cs betting websites 9 مايو، 2024 - 11:02 م Appreciating the time and energy you put into your site and in depth information you provide. It’s great to come across a blog every once in a while that isn’t the same out of date rehashed material. Excellent read! I’ve saved your site and I’m including your RSS feeds to my Google account. Reply new csgo betting website 2024 10 مايو، 2024 - 10:14 ص Great goods from you, man. I’ve consider your stuff prior to and you’re simply too fantastic. I really like what you’ve received here, really like what you’re stating and the way by which you assert it. You are making it entertaining and you still take care of to stay it sensible. I cant wait to read far more from you. This is actually a great site. Reply new cs:go skin gambling site 2024 10 مايو، 2024 - 8:19 م Have you ever thought about publishing an e-book or guest authoring on other websites? I have a blog centered on the same information you discuss and would really like to have you share some stories/information. I know my viewers would enjoy your work. If you are even remotely interested, feel free to send me an e mail. Reply steam cs 2 skins gambling websites 11 مايو، 2024 - 6:21 ص Hey very interesting blog! Reply cs 2 skins gambling websites 11 مايو، 2024 - 12:39 م Heya i’m for the first time here. I came across this board and I find It truly useful & it helped me out a lot. I hope to give something back and help others like you helped me. Reply new cs gamble site 11 مايو، 2024 - 10:22 م Unquestionably believe that which you stated. Your favorite justification appeared to be on the internet the simplest thing to be aware of. I say to you, I definitely get irked while people consider worries that they plainly do not know about. You managed to hit the nail upon the top as well as defined out the whole thing without having side effect , people can take a signal. Will likely be back to get more. Thanks Reply steam cs skins betting websites 2024 12 مايو، 2024 - 7:48 ص Have you ever considered about including a little bit more than just your articles? I mean, what you say is valuable and all. However think about if you added some great graphics or video clips to give your posts more, “pop”! Your content is excellent but with images and clips, this website could certainly be one of the most beneficial in its niche. Wonderful blog! Reply steam cs 2 betting website 2024 12 مايو، 2024 - 5:49 م We are a gaggle of volunteers and starting a new scheme in our community. Your site provided us with useful information to work on. You have performed an impressive task and our whole group might be grateful to you. Reply Гомельский государственный университет имени Франциска Скорины 17 مايو، 2024 - 1:05 ص One of the leading academic and scientific-research centers of the Belarus. There are 12 Faculties at the University, 2 scientific and research institutes. Higher education in 35 specialities of the 1st degree of education and 22 specialities. Reply Гомельский государственный университет имени Франциска Скорины 17 مايو، 2024 - 12:30 م Reply F. Skorina Gomel State University 17 مايو، 2024 - 11:12 م ГГУ имени Ф.Скорины Reply Francisk Skorina Gomel state University 18 مايو، 2024 - 9:45 ص Reply Francisk Skorina Gomel state University 18 مايو، 2024 - 8:29 م ГГУ имени Ф.Скорины Reply F. Skorina Gomel State University 19 مايو، 2024 - 7:10 م One of the leading academic and scientific-research centers of the Belarus. There are 12 Faculties at the University, 2 scientific and research institutes. Higher education in 35 specialities of the 1st degree of education and 22 specialities. Reply Гомельский государственный университет имени Франциска Скорины 20 مايو، 2024 - 5:08 ص Крупный учебный и научно-исследовательский центр Республики Беларусь. Высшее образование в сфере гуманитарных и естественных наук на 12 факультетах по 35 специальностям первой ступени образования и 22 специальностям второй, 69 специализациям. Reply Гостиничные Чеки СПБ 25 مايو، 2024 - 3:51 ص With havin so much written content do you ever run into any problems of plagorism or copyright violation? My site has a lot of exclusive content I’ve either created myself or outsourced but it looks like a lot of it is popping it up all over the web without my authorization. Do you know any solutions to help protect against content from being ripped off? I’d definitely appreciate it. Reply удостоверение тракториста машиниста купить в москве 31 مايو، 2024 - 6:49 ص If you desire to take a great deal from this piece of writing then you have to apply such strategies to your won website. Reply 乱伦色情 3 يونيو، 2024 - 7:53 ص We are a group of volunteers and starting a new scheme in our community. Your web site provided us with valuable information to work on. You have done an impressive job and our whole community will be grateful to you. Reply 乱伦色情 4 يونيو، 2024 - 5:25 ص If you wish for to get a great deal from this post then you have to apply such techniques to your won webpage. Reply гостиничные чеки Санкт Петербург 10 يونيو، 2024 - 11:11 ص Hey there! I realize this is somewhat off-topic but I had to ask. Does running a well-established blog like yours take a massive amount work? I’m completely new to blogging but I do write in my diary daily. I’d like to start a blog so I can share my experience and views online. Please let me know if you have any suggestions or tips for new aspiring bloggers. Appreciate it! Reply www.russa24-diploms-srednee.com 10 يونيو، 2024 - 1:12 م Hi there i am kavin, its my first time to commenting anywhere, when i read this post i thought i could also make comment due to this sensible post. Reply хот фиеста слот 13 يونيو، 2024 - 11:30 م Appreciating the dedication you put into your site and in depth information you present. It’s good to come across a blog every once in a while that isn’t the same unwanted rehashed material. Wonderful read! I’ve saved your site and I’m including your RSS feeds to my Google account. Reply хот фиеста casino 14 يونيو، 2024 - 11:00 ص I think this is one of the such a lot significant information for me. And i’m satisfied reading your article. However want to remark on few common things, The website taste is ideal, the articles is really excellent : D. Just right process, cheers Reply хот фиеста слот 15 يونيو، 2024 - 9:22 ص Superb website you have here but I was curious if you knew of any message boards that cover the same topics talked about in this article? I’d really love to be a part of online community where I can get feed-back from other knowledgeable individuals that share the same interest. If you have any recommendations, please let me know. Appreciate it! Reply Теннис онлайн 29 يونيو، 2024 - 3:33 م I have been surfing online more than 2 hours today, yet I never found any interesting article like yours. It’s pretty worth enough for me. In my opinion, if all site owners and bloggers made good content as you did, the net will be much more useful than ever before. Reply Теннис онлайн 30 يونيو، 2024 - 4:29 ص Hi, I do believe this is an excellent web site. I stumbledupon it 😉 I am going to come back once again since I book-marked it. Money and freedom is the best way to change, may you be rich and continue to help other people. Reply Теннис онлайн 30 يونيو، 2024 - 5:21 م If you wish for to improve your familiarity only keep visiting this site and be updated with the most recent news posted here. Reply Теннис онлайн 1 يوليو، 2024 - 6:09 ص Good day! This is kind of off topic but I need some help from an established blog. Is it tough to set up your own blog? I’m not very techincal but I can figure things out pretty fast. I’m thinking about setting up my own but I’m not sure where to start. Do you have any tips or suggestions? With thanks Reply Прогнозы на футбол 2 يوليو، 2024 - 8:54 ص Nice blog here! Also your site lots up fast! What host are you the use of? Can I am getting your associate link in your host? I want my website loaded up as fast as yours lol Reply Прогнозы на футбол 3 يوليو، 2024 - 12:53 م Thank you for any other informative web site. Where else may I am getting that kind of info written in such a perfect means? I have a undertaking that I am simply now running on, and I have been at the glance out for such information. Reply Прогнозы на футбол 4 يوليو، 2024 - 2:01 ص Wonderful goods from you, man. I’ve understand your stuff previous to and you’re just too wonderful. I really like what you’ve acquired here, really like what you’re stating and the way in which you say it. You make it entertaining and you still take care of to keep it smart. I cant wait to read far more from you. This is actually a wonderful site. Reply Прогнозы на футбол 4 يوليو، 2024 - 2:49 م After looking at a number of the blog articles on your web page, I really like your way of blogging. I bookmarked it to my bookmark website list and will be checking back soon. Take a look at my web site as well and let me know what you think. Reply Прогнозы на футбол 5 يوليو، 2024 - 3:24 ص Write more, thats all I have to say. Literally, it seems as though you relied on the video to make your point. You clearly know what youre talking about, why waste your intelligence on just posting videos to your blog when you could be giving us something enlightening to read? Reply автомойка самообслуживания под ключ 7 يوليو، 2024 - 2:39 ص Преимущество строительства автомойки под ключ заключается в оперативности запуска проекта и минимизации забот для заказчика, так как исполнитель берет на себя все этапы работ. Reply автомойка самообслуживания под ключ 7 يوليو، 2024 - 3:24 م Франшиза автомойки – отличное решение для начинающих бизнесменов. Мы предлагаем проверенную модель и постоянную поддержку. Reply автомойка самообслуживания под ключ 8 يوليو، 2024 - 3:16 ص Заказывая автомойку под ключ, вы получаете полный комплекс услуг, который включает выбор местоположения, проектирование, строительство и установку оборудования для качественной мойки авто. Reply Прогнозы на футбол 11 يوليو، 2024 - 8:59 ص I’m really enjoying the design and layout of your site. It’s a very easy on the eyes which makes it much more enjoyable for me to come here and visit more often. Did you hire out a designer to create your theme? Great work! Reply Прогнозы на футбол 11 يوليو، 2024 - 9:56 م I do consider all the ideas you have presented on your post. They are very convincing and will definitely work. Still, the posts are too quick for beginners. May you please prolong them a bit from next time? Thank you for the post. Reply автомойка под ключ 14 يوليو، 2024 - 10:50 م Строительство автомойки под ключ – ваш шаг к автономному и прибыльному бизнесу. Наши специалисты помогут на каждом этапе. Reply Jac Амур 18 أغسطس، 2024 - 10:38 م Wow, this article is pleasant, my sister is analyzing these things, so I am going to let know her. Reply theguardian 26 أغسطس، 2024 - 5:16 ص My family members always say that I am wasting my time here at net, except I know I am getting familiarity every day by reading such nice articles. Reply theguardian.com 26 أغسطس، 2024 - 7:58 م Superb site you have here but I was curious if you knew of any message boards that cover the same topics talked about in this article? I’d really love to be a part of online community where I can get responses from other knowledgeable individuals that share the same interest. If you have any recommendations, please let me know. Appreciate it! Reply theguardian 28 أغسطس، 2024 - 3:41 ص Great info. Lucky me I found your site by accident (stumbleupon). I have bookmarked it for later! Reply theguardian 29 أغسطس، 2024 - 6:33 ص I read this post fully concerning the comparison of most recent and previous technologies, it’s remarkable article. Reply Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.