مشهد من فيلم بريطاني عن "القرين" بالعنوان نفسه من إنتاج 2013 (موقع الفيلم) ثقافة و فنون دوستويفسكي قاد بطله في “القرين” إلى الجنون خطوة خطوة by admin 24 أغسطس، 2024 written by admin 24 أغسطس، 2024 47 لو سمح الوقت للكاتب بتعديل روايته كما كان يشتهي لكان من شأنها أن تتحول سيرة ذاتية له اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كانت رواية “القرين” (التي غالباً ما يترجم عنوانها إلى “المثل”، لكنها ترجمة غير دقيقة) ثاني رواية طويلة بعض الشيء يكتبها الروسي فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881)، بعد روايته الأولى “الفقراء”. يومها، ما إن صدرت “القرين”، حتى استقبلها كثر بازدراء، وقال البعض إنها تأتي لتؤكد أن “هذا الكاتب الجديد الشاب غير موهوب”، فيما قال البعض الآخر إن دوستويفسكي “تراجع فيها عن مستوى واعد كان وصل إليه في الرواية السابقة”. وحده بيلنسكي، يومها، من بين النقاد الكبار جميعاً، أثنى على “القرين” قائلاً في خلاصة مقال تقريظي عنها، إنه يرى فيها “من الموهبة الخلاقة ومن عمق الفكر” ما لم يلحظ مثله في أي عمل سابق لدوستويفسكي أو لأي من أبناء جيله، خاتماً كلامه بأن “كتاباً كثراً سيظهرون خلال حياة دوستويفسكي يعارضونه أو ينافسونه، لكنهم لن يكونوا أكثر من أصحاب مواهب سيطويها النسيان بسرعة… أما موهبة دوستويفسكي فستظل متربعة ذروة المجد”. فيودور دوستويفسكي في شبابه (1821 – 1881) (غيتي) الحق مع بيلنسكي ونعرف اليوم أن بيلنسكي كان على حق في ما ذهب اليه، حتى وإن كان دوستويفسكي قد كتب بعد “القرين” كثيراً من الأعمال التي جعلت هذه الرواية ثانوية الأهمية، على فرادتها. وسوف يقول دوستويفسكي نفسه عن “القرين” لاحقاً (في “يوميات كاتب” – 1877): “أنا لم أوفق كل التوفيق في هذه الرواية، ولكن فكرتها تبدو لي واضحة وضوحاً تاماً، بحيث إنني ما أحسب أنني أضفت إلى الأدب فكرة أكبر منها خطراً وأعلى شأناً… كل ما في الأمر أنني لم أوفق في العثور على شكل يضاهي هذه الفكرة”. وهنا أيضاً يمكننا أن نوافق دوستويفسكي على كلامه، فإن نحن بحرنا في تاريخ الأدب منذ ذلك الحين نر كم مرة حوكيت فيها هذه الرواية، وكم “مثلاً” و”قريناً” أبدع الكتاب خلال قرن ونصف القرن من بعدها. كتب دوستويفسكي “القرين” إذاً في عام 1845 لينشرها في العام التالي، وكان لا يزال في منتصف العشرينيات من عمره… ولا بأس من أن نشير هنا، ومنذ الآن، إلى أن الرواية حين نشرت لم تحقق سوى فشل ذريع في صفوف القراء العاديين، من الذين لاحظوا للوهلة الأولى أن “حبكتها غير منطقية يشوبها كثير من الارتباك”. وقد كان على “القرين” أن تنتظر زمناً طويلاً قبل أن تستعيد مكانة تستحقها، على رغم كل الحماس الذي أبداه بيلنسكي. ولعل العامل الرئيس الذي أعاد الاعتبار، لاحقاً، إلى “القرين” كان أن القراء، إذ راحوا يقرأون روايات دوستويفسكي التالية تباعاً، بدأوا يكتشفون، بدهشة، أن “القرين” تحمل مسبقاً وفي أشكال جنينية، عمق التحليل السيكولوجي الذي صار الكاتب من متقنيه الكبار، ناهيك بالليونة التعبيرية التي أضحت علامة على أدبه. ومن هنا، انطلاقاً من مثل هذه الملاحظات، أعيد اكتشاف الحبكة والرواية ككل لتحتل مكانتها كما أشرنا. فعمَّ تتحدث الحبكة؟ إحدى طبعات رواية القرين (أمازون) نسخة أصلية وثانية مصنعة تتحدث، في بساطة تلوح تدريجاً، عن شخص يدعى غوليادكين، كان في الأصل غير متوازن يعاني بعض المشكلات النفسية والعقلية، لكنه هنا، حين تبدأ الرواية، نراه يتعرض إلى مزيد من ظروف سيئة تحول عدم توازنه النسبي، إلى فقدان كامل للعقل. أو هذا، في الأقل، ما يقرره الأطباء الذين ينتهي بهم الأمر إلى وضعه في مصح عقلي بوصفه مجنوناً حقيقياً. وفي الرواية، منذ صفحاتها الأولى، وحتى سطورها الأخيرة يظل الكاتب مرافقاً “بطله” لا يتركه ولو لحظة، وكل همه أن يترصد تطور جنونه. وهذا التطور يصفه دوستويفسكي منذ السطور الأولى حين يستيقظ غوليادكين فيتثاءب ويتمطى قبل أن يفتح عينيه، لكنه يظل “مستلقياً على فراشه ساكناً لا يعلم علم اليقين أهو استيقظ حقاً أم إنه لا يزال نائماً، ولا ما إذا كان كل ما يراه حوله جزءاً من العالم الواقعي، أم هو امتداد الرؤى المضطربة التي زارته في حلم”، وصولاً إلى السطور الأخيرة، حين يحاول غوليادكين أن يحتج على حكم طبيبه القاسي عليه قائلاً: “…أنا لم أصنع شيئاً… يخيل إلى أن…”، فيقاطعه الطبيب: “سيكون لك حق في مسكن بالمجان، مع تدفئة وإضاءة وخدمة، وذلك كله لست جديراً به ولا أنت تستحقه”… ويكون الختام: “دوى جواب الطبيب القاسي في أذن بطلنا دوي حكم لا رحمة فيه. وأطلق السيد غوليادكين صرخة، وأمسك رأسه بين يديه. وا أسفاه! لقد تنبأ بهذا كله منذ زمن طويل…”. هكذا تبدأ الحكاية إذاً، بين مشهد البداية ذاك، ومشهد النهاية هذا، موضع دوستويفسكي الأحداث التي يعيشها غوليادكين مخضعاً إياه إلى رقابة من كثب… ولا سيما حين يقرر غوليادكين بداية أن من الأفضل له أن يستشير طبيباً… وإذ يفعل يتناقش مع هذا بعمق وغايته أن يؤكد لنفسه قبل أن يؤكد للآخرين أن وضعه طبيعي. بعد ذلك يتجه البطل إلى منزل رفيق عمل له يقيم حفلاً راقصاً… وكان مراده أن يحيي ابنة زميله التي يقام الحفل من أجلها. فهو بعد كل شيء يحب هذه الفتاة. لكن المجتمعين بالبيت كانوا قد علموا بحالته العقلية لذلك يرفضون استقباله رفضاً قاطعاً، مما يزيد من خطورة حاله، فيقرر أن يتسلل إلى البيت ليشارك، على طريقته، في الحفل. كيف؟ عبر اقتراف كل أنواع التصرفات الغريبة، مهيناً هذا، ضارباً ذاك، ساكباً الشراب على الأرض متفوهاً بما لم يكن يتوقعه هو نفسه من عبارات. وتكون النتيجة أن يطرد من البيت ومن الحفل طرداً. وهنا يزداد هذيانه، لتتحول كل خيالاته الآن إلى واقع حي يعيشه. وفي مقدمة ذلك التقاؤه بقرينه: أي بالسيد غوليادكين الآخر، الذي يشبهه تماماً ويحمل اسمه ويعيش إلى جانبه. والأدهى من هذا أن غوليادكين الآخر، الذي لم تخترعه سوى مخيلة غوليادكين الأصلي، يصبح هو الذي يرتكب كل الموبقات والتصرفات السيئة، التي يمكن لبطلنا الحقيقي أن يشعر إنه منها براء تماماً. الآخر وقد زادها وإذ يحس بطلنا هنا أن غوليادكين الآخر قد “زادها” إلى حد لا يطاق، لا يجد مفراً من أن يدعوه إلى المبارزة… لقد صار كابوساً حقيقياً في حياته وشعر أن الأوان قد حان للتخلص منه كلياً، إذ صار الآخر يرافقه في كل خطواته. فإذا دخل دكاناً لبيع الحلوى يبدأ الآخر في تناول قطع “الغاتوه” والتهامها والناس يعتقدون أن “الأصلي” هو الذي يفعل ذلك… ثم حين يهرب “الأصلي” راكضاً في الشارع يجد “الآخر” يتبعه كظله مهدداً متوعداً. وفي نهاية الأمر يحدث ما كان لا بد له أن يحدث: يصار إلى القبض على غوليادكين الحقيقي، ويساق إلى المصح العقلي. وحتى هناك، لن يمكنه الإفلات من ذلك الظل الثقيل، إذ يجده في رفقته داخل العربة التي تقله إلى المصح… وهنا تحدث المعجزة: يختفي القرين تحت العربة… ولن نطيل هنا التوقف عند الأحداث المتتالية إذ إنها كلها تأتي شبيهة بعضها بعضاً، مع فارق أساس يكمن في أن حال غوليادكين الأصلي تتطور من سيئ إلى أسوأ بين مشهد وآخر، تحت قلم دوستويفسكي الذي راح يرسم صورته في حركة تصاعدية كشفت مبكراً عن نزعة واقعية سيكولوجية وصلت إلى الذروة ممزوجة بمشاعر الكاتب التي راحت تراوح ما بين الشعور بالرهبة والشعور بالشفقة في آن معاً… ولسوف يتوقف النقاد – وعلماء النفس – طويلاً لاحقاً عند إبداع دوستويفسكي في التسلل إلى داخل الشخصية ووصف تحولاتها، إلى درجة يمكن معها القول إن هذا التسلل كان هو الذي أضفى على “القرين” قيمتها الكبرى. كما أشرنا، كان فيودور دوستويفسكي حين كتب “القرين” في بداية شبابه ومساره المهني… لذلك نجده حين نشرت الرواية وقوبلت بسلبية، يشعر بمرارة شديدة من جراء ذلك. ولقد دفعه هذا، لاحقاً وبعد عودته من سيبيريا إلى محاولة إعادة كتابتها، لكن وقته لم يسمح له بإنجاز تلك المحاولة، لذلك حين أعاد نشر “القرين” من جديد في عام 1865 عاد ونشرها، كما هي، مع بعض التعديلات الطفيفة، بعد أن كانت نيته أن يجعل من غوليادكين واحداً من أنصار الاشتراكية منتمياً إلى فكر فورييه وإلى تنظيم بتراشفسكي المتطرف ليقود الثورة… ما كان من شأنه أن يضفي على العمل بعض أمارات السيرة الذاتية لأن دوستويفسكي كان هكذا، قبل سيبيريا. كما نعرف. المزيد عن: فيودور دوستويفسكيالأدب الروسيرواية القرين 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سر هوليوود الدفين تفضحه عمليات شد الوجه المصغرة next post صعود وهبوط ومنع… خريطة السينما المصرية مضطربة You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024