ثقافة و فنونعربي حين اختتم فرانسيس كوبولا الكبير مساره الاستثنائي بفيلم صغير by admin 17 يونيو، 2021 written by admin 17 يونيو، 2021 17 “تيترو”: عودة إلى الذات والحميمية بعد ضخامة “العراب” و”يوم الحشر” اندبندنت عربية / إبراهيم العريسباحث وكاتب لعلنا في نهاية الأمر أمام درس في التواضع، بل ربما أيضاً درس في الفن الحقيقي. فعندما أعلن قبل أسبوع واحد من انطلاقة إحدى دورات مهرجان “كان” السينمائي، أن فرانسيس فورد كوبولا سيعرض فيلمه الجديد “تيترو” في افتتاح التظاهرة الأكثر هامشية و”شبابية” في “كان”، “تظاهرة أسبوعي المخرجين”، أصيب كثر بالدهشة. بل إن البعض منهم اعتقد أن في الأمر خطأ ما، وأن المقصود كان كوبولا الابن، وليس كوبولا الأب، ليس صاحب “العراب” و”يوم القيامة الآن” و”برام ستوكر دراكولا”… بعد ذلك، طبعاً، تأكد الخبر وأدرك كثر أن كوبولا الأب نفسه هو الذي أصر على أن يعرض فيلمه الجديد في تلك التظاهرة، وأدركوا، أكثر من هذا، أن “تيترو” هو، حقاً، واحد من تلك الأفلام الشديدة الذاتية، الشديدة الفنية، الشديدة الطموح إبداعياً، التي تجد نفسها أكثر ارتياحاً في تظاهرة مثل “أسبوعي المخرجين” منها في أي من تظاهرات “كان” الكبيرة الأخرى. كبير لأنه صغير! وهنا نبادر للقول إن “تيترو” هو فيلم كبير… لأنه تحديداً فيلم صغير، من ذلك النوع الذي إما أن يكون عملاً يريد صاحبه أن يقول كثيراً مما يعتمل في داخله، ويعرف أنه لا يمكنه قوله إلا عبر صورة ترسم العلاقات والمشاعر، أكثر مما ترسم أحداثاً، وإما أن يكون فيلم – نزوة، يريد منه صاحبه أن يوصل رسالة أو يصفي حساباً، أو يصرخ كما يفعل بول نيومان في اللقطة الأخيرة لفيلم “لون المال” لمارتن سكورسيزي: “ها أنذا قد عدت”! ونحن لن ندهش يوماً إذا ما قال كوبولا، إنه طوال الوقت الذي كان يكتب فيه هذا الفيلم ويحققه، كان يفكر بتلك العبارة. ومع هذا، لن يكون واضحاً للوهلة الأولى مدى علاقة “تيترو” بحياة فرانسيس فورد كوبولا، بخاصة أن هذا الأخير، إذ صور فيلمه، وجعل عالمه يدور في بوينس آيرس في الأرجنتين، بدا وكأنه يضيّع متفرجه. إذ، ودائماً للوهلة الأولى، قد يصعب على متفرج الفيلم الذي يعرف كثيراً عن سيرة فرانسيس فورد كوبولا، وعلاقته بأهله وإخوته وابنه وابنته، أن يخمن أن ثمة شيئاً من هذا كله في خلفية حكاية الفيلم. فرانسيس فورد كوبولا (غيتي) شيطان التفاصيل بعد هذا، بعد تفكير طويل فقط، سيكتشف المشاهد، أن المخرج السبعيني، لم يضع ما يريد قوله في حبكة الفيلم (حتى وإن كانت حبكة ذات خلفيات فنية وعائلية مباشرة) بل في التفاصيل. ونعرف أن الشياطين تكون ماثلة في التفاصيل. ولا ريب في أن كوبولا لم يكن غافلاً عن هذا القول. ومع ذلك، لن نقول هنا، إن الذين يدركون كنه هذه التفاصيل ويقيمون التوازنات والتقابلات، هم الوحيدون الذين سيستمتعون بقوة هذا الفيلم التعبيرية والفنية والحكائية أيضاً. ذلك أن “تيترو” فيلم يوجد في حد ذاته، بغض النظر عن ارتباطه بحياة مخرجه وعواطفه ورغباته الحارقة في قول ما يقول “تيترو” إذاً، فيلم ذو موضوع واضح: العلاقة بين أخوين. وهما أخوان متفاوتان في السن، ما يجعل من أصغرهما معجباً إلى حد الوله بأخيه الأكبر. والاثنان ابنان لقائد أوركسترا، يقدم إلينا منذ البداية صارماً متعجرفاً، وربما نادماً أيضاً لأنه أنجب الولدين. أكبر الولدين هو أنجلو، الذي كان (كما سنفهم بالتدريج) يعد من جانب أخيه الأصغر بيني، مثلاً أعلى. غير أن أنجلو، الذي وجد نفسه، قبل عشر سنوات من بدء “أحداث” الفيلم، غير قادر، أكثر، على تحمل مزاج الأب وقسوته، يترك بيت العائلة، ليذهب ويعيش في بوينس آيرس، مسقط رأس الأب، وفي نيته أن يصبح كاتباً، وربما (كما سندرك لاحقاً) كي يؤلف ذلك الكتاب الذي يحلم به ويريد منه، تحديداً، أن يكون أشبه بتصفية حساب له مع أبيه، وربما كذلك، مع الحدود التي تفرضها الحياة العائلية (بل أكثر من هذا، ربما من طرف خفي، تصفية الحساب مع الصورة المثالية التي صنعها له أخوه الصغير بيني، الذي كان، ولا يزال، ينظر إلى أنجلو نظرة العابد إلى المعبود). الغياب لا يلغي الحماس طوال السنوات العشر السابقة، إذاً، اختفى أنجلو تماماً… تبخر. غير أن ذلك الغياب لم يقلل أبداً من حماسة أخيه الأصغر له، بل إن هذا ظل يبحث عنه ويتحرى أخباره، أملاً في أن يعود إلى الاجتماع به يوماً، ليس فقط كي يعرف ماذا حدث له (أي لأنجلو) بل أيضاً (وربما بخاصة) للتحرر منه… إذ في مكان سري خاص داخل لا وعي بيني، من الواضح أن ارتباطه الروحي، عبر ذكريات مشتركة خاصة، بأخيه أنجلو، صار أشبه بسجن له… سجن غامض، لا بد من الخروج منه. ولا إمكانية لذلك الخروج إلا بلقاء أنجلو. إذاً، في النهاية وإذ صار بيني على وشك الاحتفال بعيد ميلاده الثامن عشر (أي الانتقال من الصبا، إلى البلوغ وسن الرشد)، يصل إلى بوينس آيرس، حيث بات يعرف أن أخاه يعيش فيها. طبعاً، وكما كان في وسعنا أن نخمن، سيتمزق أنجلو في مشاعره تجاه عودة أخيه إلى الظهور في حياته من جديد. فهو، في الحقيقة، حتى وإن كان قد فشل في كتابة الملحمة العائلية التي كان يحلم بكتابتها، تخلى عن الكتابة دافناً حلم تصفية حسابه مع الأب ومع العائلة، في أعماقه، مقنعاً نفسه بأن التبديل الذي أحدثه في حياته الخاصة يبدو كافياً لتحقيق ذلك الهدف، فهو منذ سنوات بدل اسمه إلى “تيترو”، ونسي عائلته، ويعيش حياة فنية شبه بوهيمية مع صديقة يحبها، ويمكنه بين الحين والآخر أن يسقط عليها إحباطاته وعجزه عن الكتابة، من دون أن يوصل هذا، إلى قطيعة بينهما. إيقاظ الماضي من سباته فإذا أضفنا إلى هذا أنه، وصديقته ميراندا، يعيشان في بيئة فنية صاخبة في العاصمة الأرجنتينية (منطقة لابوكا التي تشبه الحي اللاتيني الباريسي في الخمسينيات، أو “غرينتش فيلاج” في نيويورك الستينيات)، ما يدفعه إلى عيش حياته يوماً بيوم وقد خيل إليه أن هذا النمط من الحياة دفن ماضيه وأحقاده إلى غير رجعة، يمكننا أن نفهم غضبه إذ ينبثق أمام عينيه ذات يوم، بعد كل تلك السنين، ذلك الأخ الذي يوقظ الماضي لديه دفعة واحدة، واضعاً إياه من خلال ذلك، في مواجهة ذاته، وكذبه الدائم على هذه الذات ثم أكثر من هذا، في مواجهة عجزه. أخي… لماذا تركتني هذا هو الإطار العام لفيلم “تيترو” الذي، إذ حققه فرانسيس فورد كوبولا، أصر على أن يكون فيلماً بالأبيض والأسود، مع كثير من المشاهد الملونة (هي مشاهد الذكريات المشتركة بين الأخوين، لا سيما منها تلك التي تتعلق بمشاهد مستوحاة من فيلم “حكايات هوفمان” كما حققه مايكل باول). ولعل في إمكاننا أن نقول هنا، إن اختيار كوبولا لأسلوب فيلمه، إنما يرتبط أساساً بأحلام ماضية خفية كان يحملها في بداياته… أحلام ذات علاقة بنمط معين من السينما الإيطالية في الستينيات. نمط يدور حول حميمية سينما انطونيوني، وربما حول عائلية سينما فاليريو زورليني (كثير مما في “تيترو” يذكر بـ”تاريخ أسرة” لزورليني – 1962). لكن الفيلم، بعد كل شيء، ومهما كان مدى ارتباطه بذاتية ما – قبل – الثورة – الهوليوودية، يظل فيلم تصفية حساب كما أشرنا. ومع هذا يبقى سؤال أساس، هل إن كوبولا هو الذي يصفي حسابه هنا؟ ومع من؟ مع أخيه الكبير الحقيقي؟ مع أبيه؟ مع نجاح ابنته صوفيا، وبدء طغيان اسمها على اسمه، لا سيما لدى المتفرجين الأصغر سناً؟ أم تراه يحاول أن يرد، في شكل ما على فيلم صوفيا “انتحار العذراوات”؟ لسنا ندري تماماً. ولكن في إمكاننا أن نستند إلى ما يقوله كوبولا نفسه حول فيلمه، إذ يشير إلى أن لديه اليوم انطباعاً موثوقاً بأنه، فيما كان يكتب “تيترو” ومن ثم يخرجه، عرف كيف يطرح على نفسه، وعلى ماضيه، عدداً كبيراً من أسئلة لم تكن لديه ثقة في الماضي بأنه يحملها في داخله. وهو يقول، إن هذه الأسئلة أراحته، حتى وإن كان من الصعب عليه أن يقول إنه لم يجد لها أجوبة خلال إنجاز الفيلم ولا بعد ذلك… المزيد عن: فرانسيس فورد كوبولا/مهرجان كان/فيلم تيترو/مارتن سكورسيزي/سينما 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post فاروق يوسف: من غير مشيعين مشى الأخضر إلى غيابه الأخير next post كيف تولى الفايكنغ إدارة تجارة الرقيق في العالم في العصور الوسطى You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.