من لوحات "الفصول الأربعة" لنيكولا بوسان (موقع الفنان) ثقافة و فنون حلم نيكولا بوسان برسم فصول السنة حققه له الكاردينال ريشيليو by admin 16 أبريل، 2024 written by admin 16 أبريل، 2024 105 كيف أنقذ السياسي الداهية المتنور رباعية فنية رائعة من الوقوع ضحية لتعب نهايات العمر اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب من دون أدنى تردد يمكن لمؤرخ الفن أن يتحدث مثلاً عن ستة أعمال فنية استثنائية في تاريخ الإبداع حملت موضوعاً أو عنواناً واحداً لا يتبدل: “الفصول”. ففي الموسيقى هناك ثلاث رباعيات بالعنوان الموحد والموضوع ذاته ظهرت في مراحل متفرقة من تاريخ الموسيقى، أولها للإيطالي النهضوي فيفالدي، والثانية لجوزف هايدن، أما الثالثة والأكثر حداثة فكانت للروسي التحديثي الكبير بيتر تشايكوفسكي. أما في الرسم الذي يهمنا هنا تحديداً، فهناك رباعية بروغل الكبير، التي تعتبر الأكثر شهرة وقيمة فنية، وهناك رباعية الإيطالي أرسيمبولدو التي تفوق في غرابتها أية لوحات أخرى من إبداعات العصور النهضوية والكلاسيكية، وأخيراً هناك رباعية الفرنسي نيكولا بوسان التي قد لا تكون على شهرة المجموعتين السابقتين، لكنها لا تقل عنهما رهافة وإبداعاً. ولئن كنا هنا نتوقف بخاصة عند لوحات بوسان الأربع هذه والتي على رغم كلاسيكيتها تكاد تنتمي إلى رومنطيقية من نوع خاص جداً، وتتميز حتى عن أعمال بوسان الأخرى، أولاً بجمعها بين عالمين فنيين أحدهما إيطالي نهضوي والثاني فرنسي نيو كلاسيكي، مما أسبغ على المجموعة كلها ذلك الطابع الذي إن لم يكن قد خلق الرومنطيقية الفرنسية الجديدة، فإنه أرهص بها، وثانيهما كونها تعتبر من اللوحات التي طاولت فترة تخمرها سنوات لا تعد ولا تحصى منذ ولدت كفكرة ورغبة في ذهن وأحلام مبدعها حتى حققها، وكانت فترة امتدت نحو 50 عاماً مرت بين طفولة الرسام وسنواته الأخيرة، وهو الذي ولد عام 1594 ورحل عن عالمنا عام 1665. نيكولا بوسان (1594 – 1664) (غيتي) حلم حياة بأسرها موضوعنا هنا إذاً ذلك الحلم الفني الذي رافق هذا الفنان الفرنسي، الذي كاد يكون إيطالياً على أية حال، رافقه منذ وعى مواهبه في مجال الفن التشكيلي، لكنه لم يتمكن من تحقيقه إلا خلال السنوات الأخيرة من حياته. ولئن كان قد انتمى خلال السنوات الأساسية من شبابه وكهولته إلى الفن الإيطالي، إذ اعتبر دائماً أن إيطاليا هواه بل هويته حتى، فإنه لم يحقق حلمه المبكر برسم “الفصول” إلا بفضل ذلك السياسي الكاردينال الداهية ريشيليو الذي حكم أيام الملك – الشمس، لويس الـ14 وكانت له اليد الطولى في النهضة الفنية المسرحية بخاصة والفكرية التي عرفتها فرنسا في ذلك الحين. والحقيقة أنه لولا ريشيليو ربما لكان نيكولا بوسان قد رحل عن عالمنا وفي نفسه حسرة عنوانها “الفصول”. ففي نهاية الأمر رسم بوسان “الربيع” و”الصيف” و”الخريف” و”الشتاء” تباعاً خلال عام 1664 الذي سبق رحيله بعام فقط، بمعنى أن لوحات تلك “الرباعية” كانت تقريباً آخر ما أبدع في حياته. من ثم كانت الأعمال التي صب فيها خلاصة إبداعات حياته كلها، وتمكن من أن يجعلها متميزة بالنسبة إلى موضوع يبدو واضحاً للوهلة الأولى، أن أهم ما فيه لا يمكنه أن يكون تجديدياً، بل جهود جبارة ينبغي أن تبذل لتجاوز ما كان السابقون قد بلغوه في تعبيرهم عن رؤية لموضوع يبدو على الدوام ثابتاً منذ الأزل وسيبقى كذلك إلى الأبد. موضوع لا يمكنه أن يفلت من أسر الطبيعة ومكوناتها ليتحرر منها. فما الذي يمكن تحت هيمنة الطبيعة أن يختلف بين خريف وخريف أو بين صيف وصيف ما دامت عناصر الطبيعة واحدة؟ في الموسيقى أسهل مهما يكن من أمر، كانت الموسيقى بغير حاجة إلى هذه القدرة على الابتكار للتمييز “القسري” والمستحيل أحياناً، ما دام لدى لحظة إبداعها، من المخيلة والألحان، ما يمكنها من أن تبتكر لها أشكالاً وتصورات تمس المشاعر الإنسانية المتفاعلة مع أحوال الطبيعة وتقلباتها. ولكن في الرسم كان لا بد من جهود هائلة، وهكذا، على سبيل المثال، توجه بروغل الكبير في “فصوله” إلى الرجال والأعمال، فتعامل مع خصائص كل فصل من الفصول من منطلق ما ينتجه المزارعون أو الصيادون أو الحطابون أو غيرهم في نهلهم من الطبيعة وتقلباتها. أما أرسيمبولدو فتوجه صوب إنتاجات الطبيعة نفسها مكوناً وجوهاً وأشكالاً بشرية من عناصر ونباتات وثمار وغير ذلك، بحيث تمكن من أن يضفي على فصوله خصوصية لا سابق لها إلى حد ما في تاريخ التعبير الفني. فما الذي تركه هذان السلفان الكبيران لرسامنا؟ تركا له على الأرجح القدرة على التفاعل مع شاعرية الفصول، إذ راح يتعمق، وهو تعمق في ذلك أكثر من 50 عاماً بالتأكيد، ليحول تقلبات الطبيعة إلى شعر خالص، وأحياناً إلى شعر ذي معاني غامضة في نوع من النهل من الأساطير القديمة والحكايات المتداولة والقصائد التي تروي حكايات غرامية ذات علاقة أو أكثر بأحوال الطبيعة ونزواتها. وكان ذلك كما لو أن لسان حاله يقول إن لكل فصل حكايته الخاصة ومآسيه التي لا يمكنها أن تعبر عن فصل آخر وأحلام يقظته. فكانت النتيجة أن الفصول بدت بألوان الرسام وخطوطه أشبه بمسرح حياة كبير يتنوع تنوعاً مدهشاً حتى وإن كان يبدو في النهاية أحادي السياق، بل حتى، حين تبدو ثمة فوارق بارزة، حتى أكثر مما يجب بين لوحة ربيعية وأخرى خريفية لديه، انفراج الغيوم بصورة رائعة يوحي بالغبطة والراحة في تضاريس لوحة “الربيع”، وبالكآبة والتهديد في لوحة “الخريف”، يحدث أن تتدخل المكونات “غير المرتبطة بخصوصية، أي من الفصول ارتباطاً خاصاً للوهلة الأولى”، تتدخل لتضفي على الفصل المعبر عنه نفسه بعداً جديداً يخلق للفصل معاني لم تكن مرتبطة به بديهياً. تحية لتراث الإنسان ولعل اللافت والبالغ الأهمية أكثر من أي أمر آخر هنا هو أن “الرباعية” كلها ستبدو على ضوء هذه الفرضية التي تأتي كنتيجة على الأرجح لفعل إبداعي تلقائي لا كتطوير لتخطيط مسبق حتى وإن كنا افترضنا أن الرسام “خطط” 50 عاماً للوحاته، مصراً على أن يعثر على نقاط تميز نتيجة عمله عن نتيجة عمل السابقين عليه. وهكذا، لئن كان بروغل الكبير قد جعل من كفاح الإنسان العامل في الحياة رفيقاً لتقلب الفصول ومزاجيتها، ولئن كان أرسيمبولدو قد ربط الإنسان نفسه بالفصول كناتج من تفاعل البشر مع ثمار عملهم، وما تجود به الطبيعة من خيرات عليهم، فإن بوسان قد ربط الحكاية، أي حكاية العلاقة التي يعتبرها المكون الأساس للوجود البشري على وجه الأرض، بنتاجات الإنسان الإبداعية نفسها. وهنا حتى وإن كان الوصول إلى هذه الفرضية يحتاج إلى جهود بحث دائبة، فإن ما يرتكز إليه كلامنا إنما هو استعادة المتن الفني والمسرحي والشعري والأسطوري أولاً وأخيراً، الذي جعله الفنان محور تقلبات الفصول ونزوات الطبيعة والإنسان، وفي هذا السياق، يكون من حقنا أن نتساءل عما إذا لم يكن من الممكن أن يكون بوسان قد سعى في لوحاته إلى إيجاد شيء من التكامل بين التوجهات الضمنية للرباعيات الثلاث التي أشرنا إليها في سياق تمهيدنا للحديث عن “رباعية” بوسان، ومهما يكن من أمر فقد يكون من الأفضل أن نوقف فرضياتنا هنا وإلا لاحتجنا إلى مجلدات لتفسير كل هذا. وحسبنا هنا أخيراً أن نعود إلى ما جاء في بداية حديثنا هذا حول الدور الذي لعبه السياسي الكاردينال الفرنسي في “تحقيق حلم بوسان”. فالواقع أن هذا الأخير كان بالغ التعب وشديد التقدم في السن حين تناهت إلى علم الكاردينال حكاية حلمه الفني الذي ظل يؤجل تحقيقه عشرات السنين، فأرسل إليه يدعوه وكلفه مقابل مبالغ سخية بأن يرسم “الفصول” تماماً كما ظل يحلم بها طوال حياته، ولم يقبل منه تقاعساً أو اعتذاراً أو تذرعاً بالكبر والتقدم في السن. ويقول أحد مؤرخي الفن إن الحوار الذي دار يومها بين الرسام والكاردينال يكاد يكون حواراً مسرحياً رائعاً. ولقد كانت نتيجته على أية حال أن نيكولا بوسان عرف كيف يتحامل على نفسه ليحقق الحلم الفني الذي كان حينها قد بات مزدوجاً وينتج تلك الوصية التي راح يتمتم في آخر أيامه أنه يعتبرها وصيته حول العلاقة بين الزمن والطبيعة والفن كمساهمة إنسانية في الحكاية كلها. المزيد عن: نيكولا بوسانالفصول الأربعةالكاردينال ريشيليوبروغل الكبيرأرسيمبولدو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كوبولا العائد مفاجأة الدورة الـ77 من مهرجان “كان” next post هال براندز يكتب عن: التحالفات الاستبدادية الجديدة You may also like أول ترشيحات “القلم الذهبي” تحتفي بالرعب والفانتازيا 17 نوفمبر، 2024 شعراء فلسطينيون في الشتات… تفكيك المنفى والغضب والألم 17 نوفمبر، 2024 “بيدرو بارامو” رواية خوان رولفو السحرية تتجلى سينمائيا 16 نوفمبر، 2024 دانيال كريغ لا يكترث من يخلفه في دور... 16 نوفمبر، 2024 جاكسون بولوك جسد التعبيرية التجريدية قبل أن يطلق... 16 نوفمبر، 2024 المخرج والتر ساليس ينبش الماضي البرازيلي الديكتاتوري 16 نوفمبر، 2024 الحقيقة المزعجة حول العمل الفائز بجائزة “بوكر” لهذا... 16 نوفمبر، 2024 فرويد الذي لم يحب السينما كان لافتا في... 16 نوفمبر، 2024 يونس البستي لـ”المجلة”: شكري فتح السرد العربي على... 15 نوفمبر، 2024 مرصد كتب “المجلة”… جولة على أحدث إصدارات دور... 15 نوفمبر، 2024