بأقلامهم حازم صاغية يكتب عن: مزبلة التاريخ أم مزابل الواقع؟ by admin 4 سبتمبر، 2024 written by admin 4 سبتمبر، 2024 70 ورغم اختلاف النشأة الفكريّة، والفوارق التي تفصل بين مؤمن وملحد، و»يمينيّ» و»يساريّ»، يبقى أنّ النهاية السعيدة قاسم مشترك بين مدارس الجزم بوجهة التاريخ. فالخلاص سوف يعزف نشيده في النهاية، وسوف تعود البشريّة إلى زمن يشبه الزمن الذي ساد قبل أن يُطرد آدم وحواء من الجنّة وتتردّى العلاقة بين الخالق والمخلوق. الشرق الاوسط / حازم صاغية مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي. في السجالات المألوفة التي تواكب أحداثاً كبرى، كما الحال مع حرب غزّة، يُكثر البعض استخدام «التاريخ» في مواجهة مَن لا يرون رأيهم. فالأخيرون يوصفون بأنّهم لا يقفون «في الجانب الصائب من التاريخ»، وهم لا بدّ أن ينتهي بهم المطاف إلى «مزبلة التاريخ»، في استعارة منهم للتعبير الذي استخدمه ليون تروتسكي لدى الحديث عن خصومه من المناشفة الروس. والحال أنّ تمثيل التاريخ والاستحواذ عليه يبقيان أمراً يجتمع أقصى الإثارة المشهديّة وأقلّ التواضع. فتجارب الحياة تبرهن، مرّة بعد مرّة، كم أنّ القدرة على التكهّن واستشراف اليوم التالي أمر محدود ومشروط. وبين الذين فكّروا في المسألة وآثروا التواضع في التكهّن مَن ردّوا تلك المحدوديّة إلى سبب بسيط: فنحن حتّى لو عرفنا الماضي معرفة دقيقة وحميمة، تبقى معرفة كهذه ضئيلة جدّاً بقياس الإمكانات الجديدة التي سيحبل بها المستقبل. فلا الطبيعة ولا أمزجة البشر ولا احتمالات الخطأ ولا سواها من العوامل تتيح لنا أن نجزم بالآتي جزماً لا عودة عنه. وضدّاً على هذا الرأي الذي يفترض أنّ الآتي المجهول والمفاجىء غيرُ الماضي المعلوم، وُجد دائماً من يجزمون، زاعمين لأنفسهم إلماماً قاطعاً بوجهة التاريخ، أنّ الغد تتمّة أمينة للأمس. وكان طبيعيّاً لهؤلاء أن يروا أن تلك الوجهة تكراريّة، وأنّ «العودة» المبدأُ الذي يحكمها. فالمسيح، عند المسيحيّين المؤمنين، عائد لا محالة، تماماً كما أنّ المهديّ، وفق المسلمين الشيعة المؤمنين، عائد. وهكذا يتحرّك التاريخ بين ذهاب، هو اللحظة الشرّيرة والشيطانيّة، وعودة، هي اللحظة الطافحة خيراً ويُمناً. وفي الغضون هذه، وعلى ما أخبرنا مؤخّراً علي خامنئي، فإنّ حروب الحاضر والمستقبل لا تكون سوى استعادة لحروب الماضي، إذ «المعركة بين الجبهة الحسينيّة والجبهة اليزيديّة معركة مستمرّة». لكنْ، من موقع آخر، ومع تأسيس «علم التاريخ» في ألمانيا القرن التاسع عشر، حلّ خطّ من الصعود اللولبيّ محلّ الخطّ التكراريّ ذاك. فوفق هيغل، تنتقل الفكرة، أو الروح، على نحو ديالكتيكيّ من سويّة إلى أخرى أعلى إلى أن ينتهي بها المطاف إلى ثنائيّ العقل والحرّيّة. أمّا الشكل الماديّ الذي تتجسّد به الفكرة فهو الدولة التي تبلغ ذروتها مع الدولة البروسيّة لزمنه. وبدوره، تبنّى كارل ماركس هذا الديالكتيك الهيغليّ إلاّ أنّه «أوقفه على رأسه»، بمعنى أنّه أحلّ الإنتاج، في علاقاته وقواه، محلّ الفكرة، بوصفه سائق التاريخ. وفي الزمن الستالينيّ، تفنّن بعض الماركسيّين في رصد الحقبات التي عبرها التاريخ، والتي يُفترض أن يعبرها، فإذا هي خمس تنتهي في الشيوعيّة. وكان فرنسيس فوكوياما، في أيّامنا، آخر من أفتى في شأن التاريخ بحركته ووجهته، فأعلن، مع نهاية الحرب الباردة، عن إقفاله على انتصار كاسح ونهائيّ للديمقراطيّة الليبراليّة. ورغم اختلاف النشأة الفكريّة، والفوارق التي تفصل بين مؤمن وملحد، و»يمينيّ» و»يساريّ»، يبقى أنّ النهاية السعيدة قاسم مشترك بين مدارس الجزم بوجهة التاريخ. فالخلاص سوف يعزف نشيده في النهاية، وسوف تعود البشريّة إلى زمن يشبه الزمن الذي ساد قبل أن يُطرد آدم وحواء من الجنّة وتتردّى العلاقة بين الخالق والمخلوق. إذ هل يُعقَل أن لا ينتصر الحقّ والعدل على الباطل والظلم، وأن لا يُعطى للمتفائلين بالأمل والسعادة ما تفاءلوا به؟ ونظراً إلى القوّة التي تتمتّع بها فكرة «العودة»، استعان بعض الملاحدة بالفكرة المذكورة لدى المؤمنين فصاروا يتوقّعون «عودة» ماركس كلّما ألمّت أزمة باقتصاد راسماليّ، وهذا علماً بأنّ القيّمين على ذاك الاقتصاد لم ينفوا عيشه في أزمات. أمّا الذين يشكّكون بالعودة تلك، تشكيكهم بالعودات السابقة، فلن يكون في انتظارهم، بحسب العارفين بوجهة التاريخ، سوى «مزبلته». هكذا تنتقل المعرفة المزعومة بالتاريخ إلى تملّكٍ له من صنف إقطاعيّ، يتيح توزيع أعطياته على الناس، فيُمنح البعض أسرّة وثيرة في صالونات التاريخ، بعدما يُلقى بسواهم إلى مزبلته. وكان التاريخ الأوروبيّ الحديث قدّم عيّنتين صارختين عن ضعف التكهّن بالتاريخ، فضلاً عن عيّنات عديدة أخرى أقلّ دويّاً. فقد اندلعت الحرب العالميّة الأولى حين كان الأوروبيّون يستمتعون بـ «الزمن الجميل» الذي بدا معه أنّ الحروب أُحيلت إلى المتاحف، ثمّ كان الصعود الهمجيّ للنازيّة في ألمانيا، أي في البلد إيّاه الذي أعلنه هيغل مهداً للفكرة والروح في أعلى تجلّياتهما. ولاحقاً، حينما سقطت الشيوعيّة السوفياتيّة التي ظنّ بعض الماركسيّين أنّها أعلى ذرى التاريخ، صاغت النكتة الروسيّة موقفها من التكهّن التاريخيّ القاطع، فقالت إنّ الاشتراكيّة هي الطريق الأطول من الرأسماليّة إلى الرأسماليّة. ويبقى المولعون بالعرافة والتنجيم وقراءة البخت هم الأكثر انجذاباً إلى الجزم بوجهة التاريخ، والأشدّ حماسة لإحالتنا إلى مزبلة لم تعدد تتّسع لأحد بسبب ملايين الناس الذين حُشروا فيها. أمّا تجنّب السقوط في مزبلة الواقع فلا يحظى، للأسف، بما يستحقّه من عناية. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post شوقي بزيع يكتب عن: أوفيد «مفتياً» للعشاق ودليلهم إلى الحب الناجح! next post عبد الرحمن الراشد يكتب عن: الحرب التالية… إسرائيل وإيران You may also like حشود الميليشيات تهاجم قناة “إم بي سي” السعودية... 8 نوفمبر، 2024 الميليشيات العراقية تحاول التعتيم على دورها في الهجمات... 8 نوفمبر، 2024 عيدو ليفي يكتب عن: الاستفادة القصوى من الوجود... 8 نوفمبر، 2024 بادية فحص تكتب عن: محاولة لفهم موافقة “حزب... 8 نوفمبر، 2024 كيفية تقييم خيارات الرد الإيراني ضد إسرائيل 6 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: … عن الأفكار والنساء... 5 نوفمبر، 2024 علي حسن الفواز يكتب عن: سليم بركات.. الاغتراب... 5 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: إسرائيل… القضاء على... 5 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: الخيط الأميركي 5 نوفمبر، 2024 ليندا مشلب تكتب عن: لماذا النبطية؟… لهذه الأسباب... 5 نوفمبر، 2024