الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (مؤسسة دريدا) ثقافة و فنون جاك دريدا: أن تفكر يعني أن تقول لا by admin 28 يناير، 2024 written by admin 28 يناير، 2024 54 نصوص صدرت بعد رحيله تستأنف فلسفته التفكيكية اندبندنت عربية / أنطوان أبو زيد منذ أن بدأ الإنسان مساره الفكري، مضى يسائل نفسه عن السبيل إلى إدراك الحقيقة التي غالباً ما بدت له محتجبة وراء نقاب من الظواهر والوقائع. ولما نهضت الفلسفة بتلك المهمة، ما قبل القرن الخامس قبل الميلاد، ولد ذلك التحدي الملازم للبحث عن الحقيقة، عنينا به ابتداع السبيل الفكري الأكثر قابلية لإقناع الكائن (الإنسان) المفكر بصوابية هذا السبيل. وتلقفه كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، الناظرين إلى الحقيقة من منظار المنطق، الذي صار الميزان عند الفلاسفة العرب، يزينون به الوقائع، ويستخلصون منه الحقيقة، على ما يراها كل منهم، موافقة للنقل (الدين)، أو ملائمة للعقل والوجود المادي. وأمثال ذلك كثر، من الفارابي إلى الفيلسوف الطبيب ابن سينا، فإلى ابن رشد الذي رأى إمكان بلوغ الحقيقة من طريق “القياس العقلي”، وصولاً إلى الغزالي، صاحب مقالة “الشك المفضي إلى اليقين”، عبر كتابه “المنقذ من الضلال”. ديكارت وآلان ودريدا في هذا السياق يمكن اعتبار صدور كتاب دريدا، فيلسوف التفكيكية الفرنسي، المولود في الجزائر (1930-2004)، المعنون “أن تفكر: أن تقول لا”، عن دار الساقي (2023)، منقولاً إلى العربية، على يد الأكاديمي والمترجم السوري جلال بدلة، مناسبة لاستئناف الكلام على السبيل الذي انتهجته الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة لإدراك الحقيقة. ولئن كان الكتاب بصيغته الأصلية (الفرنسية) صادراً بعد موت صاحبه بـ18 عاماً (2022) عن دار سوي – وهو كناية عن مقررات كان الفيلسوف قد أعدها لتلامذته في مادة الفلسفة، وكان لا يزال أستاذاً مساعداً في كلية التربية العليا، عام 1960 – فإنها انطوت على أهمية بالغة لكونها مثلت جانباً، على قدر من الأهمية، لرؤية دريدا الفلسفية، وإن تكن عبر شرح نظريات عديد من الفلاسفة، وتفكيك أدواتهم، والنفاذ إلى منهجيتهم في إدراك الحقيقة، التي تعتبر “متطابقة مع الكائن” بحسب ديكارت، و”الحقيقة المتلازمة مع مثول للكائن” بحسب هايدغر، بعد أن كانت (الحقيقة) نسياناً للكائن لدى كل من نيتشه وكانط. الكتاب بالترجمة العربية (دار الساقي) والواقع أن مقررات دريدا، وهي كناية عن أربع محاضرات، إنما كانت مخصصة بمجملها لدرس مقولة الفيلسوف الفرنسي إميل أوغوست شارتييه، المعروف بـ”آلان” (1868-1951) وهي “أن تفكر: أن تقول لا”. وفي التمهيد للكتاب الذي أعده بريو جيرار، المشرف على جمع نصوص دريدا ونشرها، يعرض لمسوغات نشر هذه المحاضرات، والداعي إلى اختيار دريدا أقوال الفيلسوف آلان للمباشرة في شرحها على منهج التفكيكية الذي عرف به، لأن الفيلسوف المذكور بلغ به نقده تناول الحقيقة حداً متطرفاً، إذ رفض وظيفة الدليل في تبيان وجودها (الحقيقة)، وأنه مضى في شكه أبعد مما دعا إليه ديكارت، فكان ديكارتياً أكثر من ديكارت. وبين هذين الحدين، يمضي دريدا في تعيين مفاهيمه، والتدقيق فيها، في ما يشبه “تمريناً في المنهج” التفكيكي الذي سيعرف به الفيلسوف لاحقاً. المحاضرات الأربع في المحاضرة الأولى، يحدد دريدا تخوم التفكير الإيجابي، ومعنى أن تقول “لا”. وفي البداية يطرح مفهوماً للفكر، ويعرفه بأنه طلب للحقيقة. ولكن بلوغها يستلزم من طالب الحقيقة أن يقول لا، أي أن يظهر اعتراضه على كل مظهر من مظاهر الحقيقة هذه، حالما تعرض له، ذلك أن تسليم الفكر بكل ما يقدم له، في مستهل سبيله إلى معرفة الحقيقة، هو علامة على الكسل والخمول، المفضيين إلى التسليم، وهو أدنى درجات التفكير على حد رأي آلان، ينقله دريدا ويعلله. وفي المقابل، لا يكون الفكر كذلك ما لم يعترض على المسلمات التي تأتيه من الخارج، ذلك أن “المضي في طريق الحقيقة، هو قول لا للظاهر” (ص:28) ثم إن هذه اللا التي يرفعها المفكر يصدم بها كل من يرغب في التسلط عليه، سواء بالتسيد عليه (الطاغية)، أو بالرأي الماورائي (الواعظ)، أو بالرفقة (الصديق). يعرض دريدا في المحاضرة الثانية لمنهج آلان المتشدد في تعاطيه مع مظاهر الحقيقة، ومع كيفية استخلاصها، ومفاد هذا المنهج، وفقاً لتعليل دريدا دوماً، أن يستهل التفكير بالنفي، إيقاظاً للوعي من سباته، ودفعاً للتسليم بالمعطى الأولي، ذلك أن التسليم يعني فقدان حرية الحكم، وهي ركن أساس في معرفة الحقيقة. وبهذا يتحقق النقد الجذري للتسليم، وهو خصيصة كل فلسفة إرادوية في الحرية”، (ص:46)، فتصح مقولة آلان في أن “العقل المرتاب هو العقل بمختصر العبارة”، (ص:47). ثم إن منهج التفكير هذا، وفقاً لشرح دريدا، ينطوي على جانب تربوي مهم للغاية، وهو تعليم المتعلمين أصول التفكير المنهجي. وهذا ما سارعت الاتجاهات التربوية إلى استثماره في بناء قدرات المتعلمين على بناء معارفهم بأنفسهم، وتقييم أعمالهم، والشروع في أبحاث مفضية إلى معارف جديدة، وفقاً لمؤشرات ومبينات دربوا على إعدادها، وصولاً إلى الإبداع بما تيسر له من معارف ومهارات (فيغوتسكي، وشنولي، وشفالار، وآخرون). وفي هذا تقاطع مفيد بين الفلسفة والتعليمية أو ما بات يدعى بالديداكتيك. ولكن جاك دريدا في ختام مطالعته يوجه انتقاداً لهذا المنهج، معتبراً أن هذا الأخير يمثل “نزعة جذرية متطرفة للشك” (ص:51)، غالى فيها على صاحب النظرية الغربية في الشك الموصل إلى اليقين أعني ديكارت، والمتجاوز صاحبها العربي الغزالي، وكلاهما يسعى إلى الحقيقة، لا إلى إبطال كل الأدلة عليها. وفي المحاضرة الثالثة والرابعة يركز دريدا انتقاده مقولة آلان على المبالغة التي ينطوي عليها الشك الريبي الذي لا يتيح للمفكر الانطلاق من حق في الحقيقة، “فمن دون هذا الانتساب الأكسيولوجي (الأخلاقي) البدئي إلى مشروعية الحقيقة، لن يكون من الممكن رد الرأي والحكم في العموم”، (ص:69-70). ثم يمضي إلى انتقاد ميل آلان إلى التطرف في النفي، مستنداً إلى آراء فلاسفة آخرين، مثل وليام هاملتون، قائلاً إن “لا وجود لنفي معقول من دون التصور المتزامن لتوكيد، ذلك أننا لا نستطيع نفي وجود الشيء ما لم تكن لدينا فكرة عن وجود ما قد تم نفيه”، (ص:81). خلاصات ولكن سؤالاً يفرض نفسه، في ختام مطالعتنا كتاب دريدا المشار إليه أعلاه، ما الفوائد الممكنة من أثر هذا الكتاب للفيلسوف دريدا، في بيئته الغربية، ولدى المتداولين بفكره من القراء، عرباً وغير عرب؟ الإفادة الأولى أن التفكير المنهجي العقلاني يفضي إلى المعرفة، شرط أن يلتزم المفكر، أياً يكن، بمعايير القياس العقلي، على قولة الفيلسوف العربي ابن رشد. الإفادة الثانية أن هذه المطارحة التحليلية التي أجراها دريدا لمقولة الفيلسوف آلان، بينت وجود فروق، بل درجات من التفكير مختلفة، تبدأ بالتسليم، ثم الإيمان، فالتثبت، والاعتقاد، فبلوغ الحقيقة. والثالثة أن المنهج التفكيكي الذي اتبعه دريدا كان مفيداً في أنه أتاح اكتشاف البنيان الفكري المضمر لما يتم تداوله، من خلال درس ما تحمله “النعم” و”اللا” في سياقات هادفة إلى معرفة الحقيقة. وفي الرابعة أن الكتاب، أعني المحاضرات الأربع لدريدا تمثل محاولة أخيرة في تفكيك الواقعية الفلسفية التقليدية منذ توما الأكويني، التي ما برحت تقيم الربط بين العلامات والأشياء الدالة عليها، وتبين مقدار مطابقة معانيها عليها. مما لا شك فيه أن لفيلسوف التفكيكية، جاك دريدا، كثيراً من الأعمال المنشورة، والمترجمة إلى العربية نذكر ببعضها، من مثل: علم الكتابة، والكتابة والاختلاف، والصوت والظاهرة، وهوامش الفلسفة، والحقيقة رسماً، ومواقع، وبنبرة رؤيوية معتمدة في الفلسفة، عوليس غراموفون، ومذكرات، ومذكرات أعمى، وغيرها. المزيد عن: فيلسوف فرنسيفلسفةالتفكيكيةديكارتالمنهجيةمحاضراتنصوصالتأمل 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post هل “الأجسام المجهولة” أسطورة مدفوعة أميركيا لزيادة الإنفاق؟ next post أوكرانيا تكشف اختلاس 40 مليون دولار من “أموال الحرب” You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024