لا بد من الإشارة إلى أن حياة تشرشل، بعيداً من أدواره السياسية والإبداعية التي تناولناها، عرفت بجوانب أخرى تثري صورته التاريخية (غيتي) ثقافة و فنون تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره by admin 25 نوفمبر، 2024 written by admin 25 نوفمبر، 2024 34 السياسي البريطاني الداهية يقول إن فعل إيمانه لم يكن سوى الحنين إلى مهنة شبابه كاتباً وصحافياً ورساماً اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب في أواسط العقد الخمسيني من القرن الـ20، ومباشرة قبل تلك الحقبة التي نال فيها ونستون تشرشل جائزة “نوبل” للآداب، مما أثار حينها قدراً كبيراً من السخرية لدى أوساط ثقافية في شتى أنحاء العالم استكثرت عليه ذلك الفوز، ووصل بعضها إلى القول إن النوبليين لم يعطوه تلك الجائزة السامية لأدبه بل لكونه السياسي المحافظ الذي افتتح الحرب الباردة بخطبته حول الستار الفولاذي الذي أسدل على العالم، متحدثاً بذلك عن جمود المعسكر الاشتراكي. في تلك الحقبة إذاً، فاجأ تشرشل العالم بالسخرية من نفسه كما من الذين سخروا منه معلناً أنه طوال حياته لم يكن يعد نفسه سياسياً ولا عسكرياً يتحول إلى الكتابة بين الحين والآخر، بل مبدعاً وصحافياً يحاول في السياسة وفي دهاليزها أن يمرر وقتاً ضائعاً بين ممارسته الكتابة وحتى الرسم وكتابة الشعر وما إلى ذلك. وبذلك أعلن الزعيم البريطاني، الذي دفع على أية حال، غالياً ثمن مواقفه السياسية بما في ذلك التعامل العام معه بجحود على رغم إنقاذه العالم من وحشية هتلر ونازييه، أعلن شغفه الحقيقي. طموحات مختلفة بكلمات أخرى، كان تشرشل يحاول أن يذكر من هالهم أن يمنحه محكمو “نوبل” جائزتهم الأدبية بدلاً من أن يمنحوه جائزة السلام، أن شبابه الذي كونه كان حافلاً بالشغف الإبداعي، وربما من خلال عمله الصحافي الذي تنقل في خضمه خلال العقود الأولى من القرن الـ20 بين المناطق الساخنة في العالم من كوبا إلى الهند ومن السودان إلى… بريتوريا في الجنوب الأفريقي خلال حربها المسماة “حرب البوير”، التي خاضها مراسلاً حربياً بالأجرة، ولكن أيضاً مغامراً بالاختيار في حقبة أتى كتاب له باكراً منذ عام ١٨٩٩ ثم حدثه وأضاف إليه مراراً قبل أن يصدر منه في حياته طبعة “نهائية” ربما يصح اعتباره، بفضلها، واحداً من أفضل كتبه وأكثرها صدقاً. ويحمل الكتاب عنواناً يبدو شبيهاً بعناوين روايات جوزيف كونراد الذي كان كاتبه المفضل على أية حال… ولم يكن ذلك صدفة بالضرورة. مغامرات وتحيات يحمل الكتاب عنوان “من لندن إلى ليديسميث مروراً ببريتوريا“. والحال أن السير ونستون الذي كثيراً ما روى حكايات من حياته تناولنا البعض منها في هذه الزاوية بالذات، لم يخرج عن ذلك السياق في هذا الكتاب المبكر، غير أنه هنا يبدو أكثر تيمناً بكونراد من أي وقت مضى، ويبدو لنا واضحاً أن ذلك التأثر كان هو ما أعطى ذلك الكتاب طابعه الكونيرادي ولا سيما من خلال الترابط المطلق بين عنصر المغامرة ولعبة الحكواتي، مع تميز هنا يأتي لمصلحة تشرشل من جهة اللجوء إلى الوقائع التاريخية الموثقة التي عاشها بنفسه لإيصال هذا النص إلى القارئ المفترض. ففي نهاية الأمر لا يخرج كاتبنا هنا عن تأريخه لما عاشه، بنفسه من أحداث موثقة تاريخياً، ولكن في لغة مشوقة بصورة مدهشة. ولعل من أبرز تلك التواريخ الحكايات التي سبق أن عرفناها على لسان تشرشل نفسه أو على ألسنة أخرى، عن أسره في قطار بريتوريا المدرع وفراره من الأسر، ولاحقاً مساهماته في السيطرة العسكرية على المعسكر الذي كان قد اعتقل فيه. وهذه الحكاية التي قد يمكن اعتبارها أصلاً، وعلى أية حال، من أبدع نصوص الكتاب إلى درجة أن كثراً من المعلقين اقترحوا اقتباسها في فيلم سينمائي. أضواء كاشفة الحقيقة أن من أبرز خصائص هذا الكتاب، الذي يهديه مؤلفه إلى “عمال خطوط السكك الحديد”، وهي مبادرة يصعب تفهم حيثياتها لمن لم يقرأ الكتاب، يلقي أضواء كاشفة بحسب المعلقين “على الكيفية التي تمكن بها الكاتب السياسي من المزج بين نشاطاته السياسية كمراسل حربي ومشاركته العملية كمقاتل في تلك الحرب المبكرة التي خاضها…”، لكن من الخصائص الأخرى التي لا تقل أهمية، تلك التي تتعلق بالمفهوم الذي كان تشرشل يؤمن به بصدد أخلاقيات المهنة الصحافية. وتعود جذور ذلك كما بتنا نعرف الآن إلى سن مبكرة من شباب ذلك الصحافي حين لم يكن يعرفه أحد بعد، وتحديداً، إلى مرحلة أولى حين أحاقت به أول هزيمة سياسية كبرى في حياته فقرر أن يبتعد عن السياسة من دون أن يفارقها حقاً، وكانت وسيلته إلى تحقيق ذلك قبوله بأن يعمل مراسلاً حربياً لصحيفة “مورننغ بوست”. وهو راقت له الفكرة على أية حال انطلاقاً من شعوره بأن تلك الوظيفة ستتيح له أن يسجل التأثير الذي يمكن للأحداث أن تتركه على ذهنية تهمها الحقيقة أكثر مما يهمها أي أمر آخر، بحسب تعبير تشرشل نفسه في ثنايا الكتاب، حتى وإن كان لا يتوانى في تلك الثنايا نفسها، عن التوهان المقصود بحسب ما تقتضيه منه الظروف ولا سيما بين ماضيه العسكري ووضعيته الجديدة كمراسل حربي يغطي تقلبات مواقفه، بلغته الجميلة التي تكاد تكون لغة روائي من طراز رفيع. مغامرة نادرة ولعل خير مثال على ما نقول، وترد في الكتاب بلغة تشرشل نفسه، هي تلك الحكاية المتعلقة بالقطار البريتوري المصفح. ففي تلك المغامرة الفريدة من نوعها، نجد تشرشل يأخذ المبادرة بنفسه ومن ناحية التنظيم العسكري. وهي حكاية يرويها تشرشل ومن قد سبقه في روايتها كثر بعضهم عرف تشرشل من كثب، بل إن بعضهم شاركه فيها. وتقول هذه الحكاية إن الكاتب العسكري، قد نصح المقاتلين أن يطلقوا النار خلال دفاعهم عن مناطق وجودهم داخل القطار المصفح، بصورة لا تتوقف لمجرد منع الجنود البوير المهاجمين، من الاقتراب وتمكن هؤلاء من ثم من تحديد وتدقيق أهدافهم في صفوف المدافعين. والحقيقة أن نجاح الخطة كان مدوياً من خلال إنقاذها حياة أعداد كبيرة من رفاق كاتبنا في تلك المعركة، ما كان له دور كبير في حصول تشرشل على واحد من أول التنويهات في حياته وهو “صليب فيكتوريا”. ولنذكر هنا أن ما انتهت إليه تلك المغامرة هو وقوع تشرشل في الأسر بيد الأعداء، فما كان منه إلا أن استند إلى كونه أسيراً مدنياً ما مكنه من الحصول على إطلاق سراحه. ولكنه في وقت تردد البوير من دون تنفيذ القرار بذلك الإطلاق، تمكن تشرشل من الهرب وتمكن من الوصول إلى موزمبيق… ومنها نراه يعود جندياً في “سلاح الفرسان” هذه المرة ليسهم في تحرير بريتوريا نفسها من دون أن يتخلى عن مهمته كمراسل لصحيفة “مورننغ بوست”. لا بد من الإشارة إلى أن حياة تشرشل، بعيداً من أدواره السياسية والإبداعية التي تناولناها، عرفت بجوانب أخرى تثري صورته التاريخية. في شبابه، عانى علاقة بعيدة مع والديه وأظهر شغفاً بالتاريخ والأدب. خلال الحرب العالمية الأولى، تولى منصب وزير البحرية، لكنه واجه انتقادات بعد فشل حملة “غاليبولي”. وعاد لاحقاً إلى الخدمة العسكرية، ثم السياسة، إذ حذر مبكراً من خطر النازية. تميز أيضاً كرسام موهوب، بدأ الرسم كهواية وأنتج أعمالاً فنية ذات ألوان زاهية. وككاتب ومؤرخ، ألف كتباً عن التاريخ والسياسة نالت استحساناً واسعاً. وتقاعد عام 1955، لكنه بقي رمزاً وطنياً حتى وفاته عن 90 سنة عام 1965 في مراسم وداع مهيبة. المزيد عن: ونستون تشرشلجائزة نوبلحرب البويرجوزيف كونرادصحيفة مورننغ بوست 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post كيف مارست التوائم الملتصقة حياتها الخاصة قديماً؟ next post مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم حبيبها You may also like مهى سلطان تكتب عن: جدلية العلاقة بين ابن... 27 ديسمبر، 2024 جون هستون أغوى هوليوود “الشعبية” بتحف الأدب النخبوي 27 ديسمبر، 2024 10 أفلام عربية وعالمية تصدّرت المشهد السينمائي في... 27 ديسمبر، 2024 فريد الأطرش في خمسين رحيله… أربع ملاحظات لإنصاف... 27 ديسمبر، 2024 مطربون ومطربات غنوا “الأسدين” والرافضون حاربهم النظام 27 ديسمبر، 2024 “عيب”.. زوجة راغب علامة تعلق على “هجوم أنصار... 26 ديسمبر، 2024 رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري… الراسخ في... 26 ديسمبر، 2024 محمد حجيري يكتب عن: جنبلاط أهدى الشرع “تاريخ... 26 ديسمبر، 2024 دراما من فوكنر تحولت بقلم كامو إلى مسرحية... 26 ديسمبر، 2024 يوسف بزي يتابع الكتابة عن العودة إلى دمشق:... 26 ديسمبر، 2024