الكاتب الاسكندنافي يورغن فرانتز جاكوبسن (المكتبة الملكية الدنماركية) ثقافة و فنون “باربرا” تسرد خبايا الصراعات في الأطلسي والشمال الأوروبي by admin 3 يناير، 2024 written by admin 3 يناير، 2024 35 رواية الاسكندنافي يورغن فرانتز جاكوبسن تعري سقوط الرجال أمام فتنة المرأة وعذوبتها الكاذبة رغم ما يسمعونه عن انحلالها وافتقارها التام إلى الحس الأخلاقي اندبندنت عربية / شريف الشافعي كاتب وصحافي كانت مراكب القراصنة والبحارة المغامرين والسفن العسكرية الضخمة تصل بشكل متكرر إلى شواطئ جزر فارو في الشمال الأوروبي، في منتصف القرن الـ18، وترتكب في أحيان كثيرة أهوالاً وممارسات مرعبة في حق السكان، من قتل وخطف واغتصاب وسطو مسلح وسرقة وجرائم يندى لها الجبين. وعلى رغم من ذلك، لم تكن العلاقة عدائية دائماً بين هؤلاء المسلحين الوافدين من دول أوروبا المختلفة إلى جزر فارو في شمال المحيط الأطلسي، وأهل الجزر الخاضعة دائماً لسيطرة الاستعمار. فلقد كانت بعض هذه الرحلات والزيارات المفاجئة للجزر، بسبب التزود بالماء العذب وأخذ هدنة والتقاط الأنفاس من الحروب البحرية الطويلة أو لأغراض تجارية أو لتبادل المنافع والمصالح مع شعب الجزر وحكومتها. نسيج الواقع والخيال على هامش هذه المعارك والصراعات والعلاقات الاستراتيجية الأخرى التي يرويها التاريخ كوقائع حقيقية ثابتة، فإن هناك قصصاً إنسانية وتفاصيل اجتماعية أخرى كثيرة، منسوجة من الواقع والخيال معاً، يحكيها السرد الأدبي الثري الممتع عن ملامح الحياة في فارو، تلك الجزر التي يحيط الغموض حول أول جماعات استوطنتها، وهل قدم هؤلاء المواطنون المؤسسون من إيرلندا أم من مناطق أخرى محيطة. وبغض النظر عن نشأة مجتمع فارو، فإن الجزر دائماً تابعة وغير مستقلة، منذ وقوعها تحت هيمنة الفايكينغ في القرن التاسع الميلادي، مروراً بسقوطها في أيدي الدول المستعمرة المتتالية: النرويج، وبريطانيا، وألمانيا، وصولاً إلى تبعيتها الحالية لمملكة الدنمارك في إطار الحكم الذاتي الذي نالته الجزر في منتصف القرن الماضي. غلاف الرواية بالترجمة العربية (دار صفصافة) أما فترة منتصف القرن الـ18، التي تدور فيها أحداث رواية “باربرا” للكاتب الاسكندنافي “يورغن فرانتز جاكوبسن” (1900- 1938)، فلقد كانت جزر فارو خلالها جزءاً من مملكة النرويج الوراثية، وبقيت تابعة لها حتى عام 1814، الذي آلت فيه فارو مع جرينلاند وآيسلندا إلى الدنمارك، بموجب معاهدة وقعت آنذاك. وتعد رواية “باربرا” أيقونة الكاتب جاكوبسن، ابن جزر فارو الصغيرة (1400 كيلومتر مربع)، وهي أيضاً واحدة من الأعمال البارزة في الأدب الاسكندنافي الحديث عموماً، وقد تصدرت قوائم الأفضل مبيعاً باللغات الأوروبية المتعددة التي ترجمت إليها عن اللغة الدنماركية، التي كتبها بها جاكوبسن، كما أجريت لها صياغة سينمائية في فيلم دنماركي بالعنوان ذاته أنتج عام 1997، من إخراج نيلس مالمروس. ولقد صدرت حديثاً رواية “باربرا” باللغة العربية في القاهرة (دار صفصافة، 2023)، وأنجز الترجمة الكاتب والمترجم المصري ميسرة صلاح الدين. أحداث وعلاقات مشتعلة رغم الصقيع القارس والعواصف الثلجية والعزلة المكانية والظروف الخاصة التي يعيش فيها الآلاف من السكان المحليين، المسيحيين على الأغلب، في جزر فارو (320 كيلومتراً شمال غربي اسكتلندا، في منتصف المسافة بين النرويج وآيسلندا)، فإن رواية “باربرا”، التي تقع في 450 صفحة، تعكس كل ما هو ساخن ومشتعل من أحداث وعلاقات في هذه المنطقة المليئة بالاشتباكات والتفاعلات الحية، خلال القرن الـ18. لقد بلغت السفن الحربية الفرنسية العملاقة شواطئ فارو من دون سابق إنذار، في وقت لم تكن فيه حرب بين حكومة فارو والفرنسيين. وعلى رغم ذلك، ظل الخوف ممزوجاً بالفضول والدهشة في صدور سكان الجزر وجنودها ذوي الملابس الرسمية الحمراء مع اقتراب هذه السفن الثلاث. وكان الميراث الدموي لسفن القراصنة وسفن الاحتلال والسفن الحربية الغازية المعتدية يسيطر على الجميع، فالمسلحون الأجانب القادمون من البحر لكم مارسوا الفظائع من قبل في فارو، بين قتل وخطف واغتصاب وسرقة للأموال والحلي والبضائع والأغذية وغيرها من الجرائم. غلاف الرواية بالإنجليزية (أمازون) لكن الخطر الذي جاءت به السفن الفرنسية هذه المرة لم يكن تقليدياً، كما يتضح في صفحات الرواية الشيقة. فالسفن الحربية الفرنسية بدت مسالمة للغاية بمجرد أن قابلها جنود فارو بإطلاق بعض الطلقات المعبرة عن التحية والمودة. وسادت أجواء الاطمئنان والراحة والهدوء نفوس أهل فارو مرة أخرى، وعاد السكان إلى منازلهم حاملين متعلقاتهم الشخصية التي فروا بها في بادئ الأمر بها خوفاً من السفن المجهولة. لقد اتضح لأهل فارو وجنودها أن السفن الحربية الفرنسية الثلاث “نيريد” و”امفتريت” و”زهرة الزنبق” عائدة لتوها من الحرب في أميركا، وأنها اضطرت إلى أن تلجأ إلى شاطئ فارو للتزود بالماء العذب وإصلاح أعطال فادحة وأضرار لحقت بها في الحرب، تعوقها عن استكمال طريق العودة، وقد دفعتها العواصف الثلجية الشديدة في طريق الشمال. ووجد الطرفان (الفرنسيون وأهل فارو) أنه لا بأس من استراحة السفن قليلاً في فارو، ومبادلة براميل النبيذ الأحمر التي تحملها السفن الفرنسية، بكميات من الماء العذب المتوفر بغزارة في جزر فارو. لم تكن السفن الفرنسية المسلحة بالعتاد ذات خطورة على فارو بالمعنى المألوف المتوقع، على الصعيد الحربي العسكري، ولكن مؤلف رواية “باربرا” أراد رسم حبكة درامية متخيلة، أكثر شمولاً وعمقاً، إذ تتصاعد فيها على نحو متدرج خطورة أخرى موازية، ليست أقل تأثيراً وضرراً من خطورة القتال وتبادل إطلاق النار مع الأعداء. وهذه الخطورة الموازية، مبعثها جملة الصراعات الاجتماعية والدينية والثقافية والعاطفية، والعلاقات الاشتباكية المعقدة والفاسدة والمريضة والاستفزازية والانتقامية والغامضة، بين سكان فارو والوافدين الفرنسيين من جهة أولى، وبين أفراد الجزر أنفسهم، بعضهم مع بعض، من جهة ثانية. أنوثة المركز ولكي لا يشتت المؤلف قارئه في فوضى هذه الصراعات والعلاقات المتوترة، فإن الشخوص الذين يحكي عنهم الراوي العليم هم محدودون نسبياً في الرواية من حيث العدد، كما أنهم جميعاً، بطريقة أو بأخرى، منجذبون أو ملتصقون أو متصلون أو متقاطعون أو متنافسون مع الشخصية المحورية “باربرا”، التي تحمل الرواية اسمها، وهي أرملة حسناء عمرها 28 عاماً، وابنة قاض راحل مرموق من قضاة فارو. وبغض النظر عن صحة ما يتردد في شأن أن يورغن فرانتز جاكوبسن أراد بروايته توثيق معاناته وعذاباته جراء علاقة غرامية طاحنة مضطربة خاضها فعلياً في حياته، فإن روايته “باربرا” تعكس فكرة “أنوثة المركز” بامتياز. إن الأحداث والتفاصيل الروائية التي تدور في داخل جزر فارو، وعلى شواطئها مع قدوم السفن الفرنسية، هي كلها، مثل شخوص الرواية، ممسوسة بحضور “باربرا”، المرأة الفاتنة التي يضرب بها أهل فارو الأمثال في الجمال والحيوية والمرح والجاذبية والخصوبة والنضج الأنثوي، ويراها كثيرون أيضاً نموذجاً للإغراء والإغواء والتمرد والذكاء المدمر والانتهازية والسقوط والقدرة على التلاعب بالمشاعر وإثارة النزوات والرغبات. على شواطئ جزر فارو الأرخبيلية، وعلى ضفاف السيدة “باربرا” المتعددة الوجوه والقلوب والحالات المزاجية، تلتقي كل الخيوط المحكمة لعمل جاكوبسن الروائي. من خلال “باربرا”، تتكشف كل التشوهات الفردية والتفسخات المجتمعية التي أصابت الجزر النائية المعزولة، بعدما راح يضربها البحارة، تارة بأسلحتهم، وتارة بعاداتهم وقوتهم الناعمة. مترجم العمل ميسرة صلاح الدين (دار صفصافة) إنها “باربرا”، التي تكررت زيجاتها من القساوسة، وكأنها تحترف قنص رجال الدين بغوايتها وسحرها. فلقد تزوجت القس “جوناس” من الجزر الشمالية، والقس “نيلز” من جزيرة “فاجار”، كما كانت مخطوبة للقس “أندرس” من نيس. وها هي تستكمل ألاعيبها للإيقاع بالقس “بول أجريس”، القادم على إحدى السفن الفرنسية. وبالفعل، يتزوجها “أجريس” بعد نجاح مخططها في الإيقاع به، ولكنه سرعان ما يكتشف تمردها وتحللها وعلاقاتها المتعددة وعدم اكتفائها بحبيب واحد لإرضاء غرورها وشراهتها وطموحها اللامحدود. تعرية فئات المجتمع وكما تعري “باربرا” القساوسة ورجال الدين، واحداً تلو الآخر، كرجال يتساقطون ويلينون بسهولة أمام فتنة المرأة وعذوبتها الكاذبة، رغم ما يسمعونه عن انحلالها وافتقارها التام إلى الحس الأخلاقي، فإنها تعري أيضاً رجال السلطة والمال والنفوذ وجميع الفئات المجتمعية الأخرى. إن القاضي والتاجر والجندي الوطني الملتزم والجندي الفرنسي السكير وطالب علم الاقتصاد الشاب وغيرهم من الشرائح الاقتصادية والسلطوية والتعليمية المتفاوتة يقعون جميعاً في عشق “باربرا”، ويتغاضون طواعية عن ماضيها السيئ المنحرف، ويقومون بممارسات مبتذلة ودنيئة في سبيل امتلاكها ولو لفترة، بدعوى العشق. وفيما هم يجدون أنفسهم ونشوتهم في قطافها والفوز بها، فإنها تجد ذاتها ولذتها في التلاعب بهم، وتحقيق مصالحها المادية ورغباتها الشاذة، ونيل ما تريده من انطلاق ومرح وثورة على كل التقاليد والمحظورات. ولا يهمها في سبيل إدراك نزواتها ونزقها ما تلاقيه من انتقادات على ألسنة أهل “فارو” المحافظين، الذين صاروا ضعفاء على ما يبدو في وجه التحولات العنيفة التي طرأت على المجتمع المنفتح. ولا تغفل الرواية أيضاً إشارات وإحالات فلسفية متعمقة ينثرها يورغن فرانتز جاكوبسن من خلال شخوصه الدالة، وعلى رأسهم “باربرا” وعشاقها وأقاربها وأصدقاؤها وصديقاتها ومنتقدوها ومنتقداتها، كتلك التساؤلات مثلاً عن جدوى الحياة ومعناها الحقيقي بين الروحانية والاستهلاك، وذلك النقاش الجدلي عن طبيعة الغرور المنبعث من مصادر مختلفة، كالجمال والمال والسلطة والنفوذ، وكلها مصادر زائلة. وتضاف إلى هذه الإشارات والإحالات، محاولة الرواية الجادة فهم اللاوعي الإنساني، وكيف يمكن أن يتحلل البشر من عقولهم وضمائرهم وخلفياتهم العقائدية والاجتماعية والثقافية في كثير من ممارساتهم وسلوكياتهم، ومع ذلك يحيون وهم حائرون، ومحيرون لغيرهم، كقوارب ضالة لا ترسو على شاطئ. المزيد عن: روايةالمحيط الأطلسيروايات مترجمةجزر فاروالسفن الحربيةإحالات فلسفية 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post رفيق الحريري والتسوية المستحيلة مع “حزب الله” next post سليمان الحقيوي يطرح أسئلة السينما المعلقة You may also like سامر أبوهواش يكتب عن: “المادة” لكورالي فارغيت… صرخة... 25 نوفمبر، 2024 محامي الكاتب صنصال يؤكد الحرص على “احترام حقه... 25 نوفمبر، 2024 مرسيدس تريد أن تكون روائية بيدين ملطختين بدم... 25 نوفمبر، 2024 تشرشل ونزاعه بين ثلاثة أنشطة خلال مساره 25 نوفمبر، 2024 فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم... 24 نوفمبر، 2024 قصة الباحثين عن الحرية على طريق جون ميلتون 24 نوفمبر، 2024 عندما يصبح دونالد ترمب عنوانا لعملية تجسس 24 نوفمبر، 2024 الجزائري بوعلام صنصال يقبع في السجن وكتاب جديد... 24 نوفمبر، 2024 متى تترجل الفلسفة من برجها العاجي؟ 24 نوفمبر، 2024 أليخاندرا بيثارنيك… محو الحدود بين الحياة والقصيدة 24 نوفمبر، 2024