بأقلامهمعربي الياس خوري: شرفة الانهيار by admin 5 يناير، 2022 written by admin 5 يناير، 2022 138 زعماء وإعلاميون وأتباع يمتطون الشاشات ويجترون الكلام ويتعاملون مع المشاهدين وكأن الناس لا تملك عقلاً أو ذاكرة أو حساً إنسانياً. الياس خوري \ صفحة الكاتب facebook فتح صديقي عينيه بعد منام كابوسي طويل، ووقف أمام المرآة فلم يرَ صورته، بل رأى صورة مشوهة امتزجت فيها ملامحه بصور غريبة. شعر الرجل أنه فقد صورته وسط خليط من الصور، وأنه صار عاجزاً عن الكلام. هل هذه صورتي؟ حاول أن يصرخ. قال إنه عاد إلى بيروت بعد غياب طويل، عاد لأن الغربة التي اختارها غرّبته عن نفسه، عاد لأنه لم يعد يحتمل الحنين، وصارت الغصة في حلقه تخنقه. هناك في البلاد البعيدة كان لا يستطيع التكلم عن بيروت خوفاً من أن يرتجف صوته بالبكاء. عاد كي يعود، لأن بلاده حق له. لكنه هنا رأى صورته في مرآة المدينة كأنها صورة رجل آخر. عاد كي لا يكون غريباً، فشعر أنه صار غريباً في بلاده. «صرت أكره نفسي» قال. هذا المشهد جعلني عاجزاً عن الكلام. كيف ألخص لصديقي حكاية بيروت مع غربتها عن ذاتها؟ من السهل أن نصف انهيار لبنان، وهذه الحفلة التنكرية التي تهددنا بالفدرالية والتقسيم، بعد الإفلاس والإفقار والبهدلة. لكن من الصعب أن نفهم لماذا صرنا لا نشعر سوى بالكراهية لأنفسنا. هل نجح نظام النهب في ابتلاع صورتنا وتحطيمها؟ وهل تحول الإفلاس إلى إفلاس روحي يجتاح حياتنا؟ لم يفلس النظام المالي والاقتصادي اللبناني فقط، بل أفلست معه نخبة حاكمة لا تزال تحكم وتتحكم، وتقتات من الركام، ولا تريد أن تسقط إلا إذا سقط لبنان كله معها في الهاوية. كنا نعتقد أن الانهيار الجارف سوف يولّد انفجاراً شعبياً يطيح بالأوليغارشية الحاكمة. هذا الانفجار لم يحصل حتى الآن. عدم حصوله أعطى العصابة الحاكمة متسعاً للمناورات والألاعيب والتحريض الطائفي، كما سمح لمتمولين وزعماء قدامى وجدد بتقديم صدقات ومعونات يشترون بها الولاء. والحق يقال، إن قدرة اللبنانيات واللبنانيين على التحمّل تثير العجب. فلقد فُرض على الناس التعامل مع الكارثة وكأنها كارثة طبيعية، بعدما نجحت ألاعيب السياسيين في تجهيل الفاعل أو حجبه خلف نقاشات عقيمة عن كيفية توزيع الخسائر والعلاقة بصندوق النقد والكابيتال كونترول وإلى آخره. مع أن المنطق يقول إن حلّ الأزمة يبدأ من تسمية مسببيها وسوقهم إلى العدالة. فانهيار النظام المصرفي وتبدد العملة الوطنية وإفقار الناس هو جريمة وليس كارثة طبيعية. لكن ماذا نستطيع أن نقول في بلاد 4 آب- أغسطس، حيث يجري جرجرة التحقيق في جريمة انفجار المرفأ ومحاولة شرشحة القضاء، وحيث لا تنفذ مذكرات التوقيف التي أصدرها المحقق العدلي، بل وصلت الوقاحة إلى حد طرح قضية انفجار المرفأ على طاولة المقايضة السياسية والزبائنية. لكن ليس هذا هو الموضوع. والموضوع ليس ذاكرة ذلّ محطات الوقود والصيدليات والبحث عن حليب للأطفال واختفاء الأدوية وجنون الأسعار، والى آخر آخره. فهذه المسائل صارت تثير السأم حتى عند من يعانون منها. الأعجوبة اللبنانية الجديدة هي أن يسأم الناس من ألمهم، ويكرهوا أنينهم، ويشعروا بأنهم يهينون أنفسهم إذا اشتكوا أو صرخوا أو تأففوا. وفوق كل هذا البؤس تأتي الوجوه الكالحة والابتسامات الجوفاء والكلام السمج الذي نراه كل يوم على شاشات التلفزيون. زعماء وإعلاميون وأتباع يمتطون الشاشات ويجترون الكلام ويتعاملون مع المشاهدين وكأن الناس لا تملك عقلاً أو ذاكرة أو حساً إنسانياً. ما هذا؟ لص يحاضر في إيجاد حلول لأزمة اندلعت لأنه سرق المال العام، ونهب ثروة البلاد وبددها. مجرم يحثنا على الفضيلة، لكنه لا يخفي بأنه يهددنا إذا لم نخضع لإرادته. رؤساء ووزراء حكموا واستحكموا ويتكلمون اليوم كأنهم معارضون، ويدعون إلى حوار هدفه حفظ مواقعهم على طاولة النهب. لم تعد مشكلتنا هنا، فنحن نعلم أن المأساة اللبنانية لن تجد حلاً لها بالطرق التقليدية القديمة، أي عبر صفقة بين القوى الإقليمية تُفرض على التابعين اللبنانيين من زعماء الطوائف الذين يلوذون بالخارج. الحكاية معقدة، فلقد أطاحت الطبقة الأوليغارشية الحاكمة بكل احتمالات الحلول العقلانية، لأنها لا ترى في المأساة سوى وسيلة لتجديد هيمنتها. الموضوع لا يمكن حله إلا عبر ثورة شاملة تؤسس وطناً على أنقاض هذا الخراب. والعملية طويلة وتواجه صعوبات متعددة على كل المستويات، ولعل الصعوبة الأكبر داخلية ولا يمكن الخروج منها إلا عبر بلورة تاريخية لبديل وطني علماني ديمقراطي. لكن في الوقت الضائع الذي نعيش فيه منذ انفجار 4 آب- أغسطس، فإن صورتنا باتت أشد إيلاماً من حقيقتنا. يحتل هذه الصورة لصوص وأوغاد يحترفون كلاماً لا يتكلم، يتلهون بصراعاتهم ويسخرون من عقولنا، كأننا نعيش في كارنفال من التهريج المثير للسأم. نتفرج عليهم فنرى وجوهنا وقد تشوهت وتهشمت في مراياهم، نكرههم ونشعر أننا صرنا نكره أنفسنا. قانون الانهيار في الوطن الصغير المدمر هو أن يكره اللبناني نفسه، ويشعر بالغربة عن صورته، فيستسلم لموته البطيء. «هذه الدائرة المقفلة تطبق على صدورنا» قال. «ماذا ستفعل»؟ سألته «هل ستغادر من جديد»؟ «لا أدري» قال. «لكن قبل كل شيء يجب أن أحطّم هذه المرآة كي أتنفس». «وأنتَ»؟ سألني. «وأنا أيضاً لا أدري، أخاف أن تكون المرآة قد ابتلعتنا جميعاً، يجب أن نخرج منها أولاً كي نستطيع أن نحطمها». «وكيف نخرج منها»؟ قال. «هذا هو السؤال»؟ أجبته. 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post “تسونامي كورونا” اليوم: مليون في أميركا و200 ألف في بريطانيا next post Calls grow for inmate releases as COVID-19 cases climb in Canada’s jails and prisons You may also like ساطع نورالدين يكتب عن: “العدو” الذي خرق حاجز... 24 نوفمبر، 2024 عبد الرحمن الراشد يكتب عن: شالوم ظريف والمصالحة 24 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: لبنان وسؤال الاستقلال المُرّ 24 نوفمبر، 2024 مها يحيى تكتب عن: غداة الحرب على لبنان 24 نوفمبر، 2024 فرانسيس توسا يكتب عن: “قبة حديدية” وجنود في... 24 نوفمبر، 2024 رضوان السيد يكتب عن: وقف النار في الجنوب... 24 نوفمبر، 2024 مايكل آيزنشتات يكتب عن: مع تراجع قدرتها على... 21 نوفمبر، 2024 ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني... 21 نوفمبر، 2024 غسان شربل يكتب عن: عودة هوكستين… وعودة الدولة 19 نوفمبر، 2024 حازم صاغية يكتب عن: حين ينهار كلّ شيء... 19 نوفمبر، 2024 Leave a Comment Save my name, email, and website in this browser for the next time I comment.