رسم لمحاكمة القاتل المتسلسل ميشيل فورنيريه في باريس عام 2023 (أ ف ب) منوعات القاتل المتسلسل ونظيره العشوائي “تبادل الجرائم” بدم بارد by admin 15 يناير، 2025 written by admin 15 يناير، 2025 10 يكمن الفارق الجوهري بينهما في الدوافع النفسية والأهداف التي تحرك كلا منهما اندبندنت عربية / داليا محمد صحافية في جريمة هزت الشارع العراقي بداية هذا العام، قُتلت عائلة مكونة من الأم والعمة وستة أطفال في منطقة الصدر بالعاصمة بغداد، وقد لقوا جميعاً حتفهم بدم بارد بعد تعذيبهم، ولم يكن الدافع سوى خلافات مادية وسرقة الأموال داخل المنزل، وهذه الجريمة الصادمة التي تفتقر إلى أي تعقيد نفسي أو استهداف مدروس تفتح الباب أمام تساؤل مهم وهو هل يشهد العالم تحولاً في أنماط الجرائم؟ وما بين القاتل المتسلسل الذي يعرف بتخطيطه المحكم واختياره الدقيق لضحاياه، ونظيره العشوائي الذي يهاجم من دون تمييز أو هدف جلي، تبدو الفجوة واضحة، لكن هناك تزايداً واضحاً في الهجمات العشوائية. عصران من الجرائم للوهلة الأولى تبدو الجرائم المتسلسلة والعشوائية وكأنهما وجهان مختلفان تماماً للإجرام، لكل منهما سياقه وأبعاده النفسية والاجتماعية، فالقاتل المتسلسل شخصية ارتبطت بالدهاء والاختلال النفسي المعقد، إذ ينفذ جرائمه بأسلوب منهجي ويختار ضحاياه بعناية بناء على سمات معينة مثل العمر أو الجنس أو المهنة، ويخطط لكل جريمة ببرود شديد ودقة تُبرز افتتانه بالتلاعب والسيطرة، وينفذها عبر فترات متباعدة قد تمتد لأعوام طويلة. وقد كانت ذروة هذا النوع من الجرائم خلال السبعينيات والثمانينيات حين عرفت أمريكا والعالم أسماء مثل تيد بندي الذي استغل وسامته لكسب ثقة ضحاياه، وجيفري دامر الذي عُرف بدوافعه المروعة والمعقدة، وجون واين غيسي الذي أخفى ضحاياه في سرداب منزله. وفي العادة كان هؤلاء الرجال مزيجاً من العبقرية والجنون، يقودهم اضطراب نفسي عميق ورغبة في إشباع دوافع شاذة أو الهرب من صدمات الطفولة، لكن ما جعل هذا العصر مميزاً ليس فقط عدد الجرائم أو وحشيتها، بل كيف أصبحت تلك الشخصيات محط اهتمام غير مسبوق. جيفري دامر (أ ف ب عبر غيتي) ببساطة أسهم الإعلام ممثلاً في التلفزيون والصحف والأدب البوليسي بصورة كبيرة في تحويل القاتل المتسلسل إلى أيقونة ثقافية، فظهرت أفلام ومسلسلات تخلد هذه الشخصيات أو تستلهم قصصها مما جعلها في أذهان الناس شيئاً أقرب إلى الأسطورة على رغم بشاعة أفعالها. ومع نهاية القرن الـ 20 بدأت أعداد الجرائم المتسلسلة في التراجع، وليس من المعروف بالتحديد ما إذا كان هذا يعود لتطور أساليب الشرطة وزيادة الوعي النفسي أم تغير المجتمع نفسه، ومهما كان السبب فإن ذلك التراجع تزامن مع ظاهرة أخرى أكثر فوضوية وخطورة، صعود القاتل العشوائي أما القاتل العشوائي فعلى عكس نظيره المتسلسل، فهو لا يهتم بالتخطيط أو الانتقائية، وغالباً ما تكون هجماته اندفاعية مستهدفة أي شخص يوجد في المكان والزمان الخطأ، ولا يوجد نمط واضح للضحايا إذ يمكن أن يكونوا أطفالاً أو نساء أو كباراً في السن من دون أي رابط مشترك، وليست دوافع هذا النوع من القتلة واضحة دائماً لكنها كثيراً ما ترتبط بالغضب اللحظي أو أزمات نفسية غير معالجة أو تأثيرات اجتماعية مثل العزلة أو الإحباط، وخلال العقود الأخيرة أصبحت أخبار القتل العشوائي جزءاً من الحياة اليومية في مختلف أنحاء العالم، وبدءاً من إطلاق النار في المدارس ومروراً بالهجمات في الأماكن العامة ووصولاً إلى الاعتداءات الجماعية، فكل هذه الجرائم تشير إلى تغير جذري في طبيعة الإجرام، فقد يجعل غياب التخطيط الطويل أو الانتقائية الواضحة هذه الجرائم أكثر فوضوية وصعوبة في التنبؤ بها أو منعها، وهنا يبرز السؤال حول ما الذي دفعنا من عصر القاتل المتسلسل إلى عصر القاتل العشوائي؟ عوامل التحول ربما يمكن تفسير التحول من هيمنة القاتل المتسلسل إلى ظهور القاتل العشوائي من خلال مجموعة معقدة من العوامل الاجتماعية والتكنولوجية والنفسية، ففي البداية لا يمكن تجاهل التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها العالم منذ نهاية القرن الـ 20، ففي العقود التي شهدت ذروة جرائم القتل المتسلسل كانت المجتمعات الغربية بخاصة تمر بفترات اضطراب اجتماعي كبير، من الحروب والتمييز العنصري إلى انهيار القيم التقليدية، وأتاح هذا المناخ بيئة خصبة للاضطرابات النفسية والتوترات التي أنتجت قتلة متسلسلين، لكن في العصر الحديث أصبحت القضايا المجتمعية أكثر ارتباطاً بالانعزالية الحديثة وضغوط الحياة اليومية، مثل تفاقم الشعور بالعزلة الاجتماعية والانفصال عن المجتمع المحيط، مما يدفع بعض الأفراد إلى الانفجار بطريقة عشوائية وفوضوية. كذلك صارت المجتمعات أكثر انقساماً وأقل ترابطاً اجتماعياً مما أسهم في زيادة هذه الجرائم العشوائية، ومع تزايد العزلة الاجتماعية والتكنولوجيا التي تتيح للأفراد الانعزال خلف شاشاتهم، تضعف الروابط بين الناس ويقل الشعور بالمسؤولية الجماعية، وتخلق هذه العوامل ظرفاً مثالياً للعنف العشوائي إذ يشعر الأفراد بأنهم غير مرئيين أو مهمشين، وبالتالي تتعزز لديهم مشاعر الغضب واليأس التي قد تؤدي إلى اندفاعات عنيفة غير متوقعة. من ناحية أخرى لعب التقدم في التحقيقات الجنائية دوراً حاسماً في تراجع جرائم القتل المتسلسل، ومع ظهور تقنيات مثل تحليل الحمض النووي (DNA) وتحسين تقنيات الطب الشرعي، أصبح من الممكن تعقب الجناة بسرعة وبدقة مما يقلل فرص إفلات القتلة المتسلسلين من العدالة والاستمرار في ارتكاب مزيد من الجرائم، وقد جعلت هذه التحسينات من الصعب على القتلة التخطيط والاستمرار في سلسلة جرائم من دون أن يُكتشفوا، مما جعل المجرمين الذين لديهم دوافع عنيفة يتجهون نحو أساليب أكثر مباشرة واندفاعية مثل القتل العشوائي. لكن إلى جانب هذه العوامل لا يمكن تجاهل دور الأسلحة النارية في دعم ظاهرة القتل العشوائي، وفي عدد من الدول تسهل قوانين امتلاك الأسلحة الوصول إلى أدوات القتل القادرة على إحداث دمار هائل في وقت قصير، ويجعل هذا الانتشار الواسع للأسلحة الهجمات العشوائية أكثر سهولة، إذ يمكن لأي شخص يحمل سلاحاً أن يسبب خسائر بشرية كبيرة خلال دقائق، كما رأينا في عدد من حوادث إطلاق النار الجماعي. وأخيراً يأتي دور التكنولوجيا والإنترنت في هذا التحول، فمع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ومنتديات الإنترنت المظلمة أصبح من السهل على الأفراد المنعزلين أو الغاضبين إيجاد مجتمعات رقمية تعزز أفكارهم العدائية أو تمنحهم شهرة لحظية، وهي عامل جذب خطر لعدد من القتلة العشوائيين، إذ يستلهم بعضهم خططه من أعمال عنف سبقته أو حتى يبث هجماته مباشرة على الإنترنت بهدف تحقيق صدمة جماعية ومضاعفة التأثير. الذعر المستمر في مقابل الصدمة اللحظية يمكن القول إن الفارق الجوهري بين القاتل المتسلسل ونظيره العشوائي يكمن في الدوافع النفسية والأهداف التي تحرك كلا النوعين، فالقاتل المتسلسل عادة ما يكون مدفوعاً برغبات داخلية معقدة ترتبط بالسيطرة أو تحقيق شهوة خاصة سواء كانت جنسية أو نفسية، وهذا النوع من القتلة يخطط لجرائمه بعناية فائقة ويختار ضحاياه بناء على سمات محددة تتناسب وتخيلاته، وعلى سبيل المثال تشير دراسة أجرتها “الجمعية الأميركية لعلم النفس” إلى أن 70 في المئة من القتلة المتسلسلين يعانون اضطرابات نفسية مثل الشخصية النرجسية أو السيكوباثية، مما يجعلهم يسعون إلى تحقيق شعور بالسيطرة المطلقة من خلال تكرار جرائمهم. وفي المقابل فعادة ما يكون دافع القاتل العشوائي هو اللحظة الآنية، مثل الغضب أو الانتقام أو حتى الرغبة في جذب الانتباه، وهذا النوع لا يخطط بصورة مطوّلة أو دقيقة بل تكون هجماته اندفاعية في كثير من الأحيان ويختار ضحاياه بصورة عشوائية تماماً، مما يجعل الجريمة تبدو فوضوية وغير متوقعة، وأظهرت دراسة أعدها “مركز الوقاية من العنف في جامعة كاليفورنيا” أن معظم الجرائم العشوائية الحديثة مدفوعة بحال غضب فورية أو أزمة نفسية حادة، من دون وجود أي تاريخ طويل من التخطيط المسبق. بوستر مسلسل “مواجهة قاتل متسلسل” (موقع المسلسل) وتترك جرائم القتلة المتسلسلين أثراً طويل الأمد في المجتمع بسبب نمطية الجرائم وتسلسلها، مما يبقي الناس في حال ترقب دائم لأنهم يخشون أن يكونوا الضحية التالية، ويستشهد عدد من علماء الاجتماع بهذا النوع من الجرائم بوصفه تهديداً نفسياً متواصلاً يبقي المجتمع في حال توتر دائم. أما الجرائم العشوائية فتخلق موجة من الصدمة اللحظية، إذ تكون غالباً عنيفة ومفاجئة لدرجة أنها تزرع الخوف على المدى القصير في الأماكن العامة، وقد أظهرت دراسة أُجريت بعد حادثة إطلاق النار في لاس فيغاس عام 2017 أن 63 في المئة من سكان المنطقة تجنبوا حضور فعاليات عامة لمدة شهر في الأقل بعد الحادثة، لكن الشعور بالخوف العام تضاءل مع مرور الوقت. بين الأسطورة والصدمة يلعب الإعلام دوراً محورياً في تشكيل صورة القاتل في وعي المجتمع، لكن هناك اختلافات جوهرية في طريقة تغطيته لكلا النوعين، وغالباً ما يتحول القتلة المتسلسلون إلى أساطير إعلامية بفضل تغطية طويلة الأمد تبرز تعقيدات شخصياتهم ودوافعهم الغريبة وكيفية اكتشافهم، فأسماء مثل تيد بندي وجيفري دامر أصبحت مرادفة للخوف والرهبة، ليس فقط بسبب أفعالهم ولكن أيضاً بسبب الطريقة التي قدمتهم بها وسائل الإعلام عبر أفلام وثائقية ومسلسلات شهيرة مثل “مايندهانتر” و”دامر”، وإضافة إلى ذلك أصبح القاتل المتسلسل رمزاً ثقافياً في السينما والأدب، إذ قامت أفلام مثل “صمت الحملان” و”سيفن” وروايات مثل “التنين الأحمر” أو “القاتل بداخلي”، بإظهار القتلة المتسلسلين كشخصيات بطولية معقدة يجري تناولها من خلال منظور نفسي عميق، مما يجعل هذه الشخصيات تثير الفضول والرعب في آن. وعلى النقيض فغالباً ما تركز تغطية الإعلام للقتلة العشوائيين على الصدمة اللحظية لهجماتهم، ويجري تسليط الضوء على أعداد الضحايا والطبيعة الفجائية للعنف من دون التعمق كثيراً في شخصية المجرم، مما يخلق حالاً من الهلع السريع الذي قد يختفي تدريجاً مع مرور الوقت، على عكس الذعر المستمر الذي يرافق متابعة أخبار القتلة المتسلسلين. ومن ناحية أخرى يعكس الأدب والسينما الحديثة تطوراً في تصوير القتلة العشوائيين خلال العصر الجديد، فتقدم أفلام مثل “جوكر” و”حداد جماعي” صورة معقدة لأفراد عشوائيين يرتكبون جرائم عنف مفاجئة، ولكن هذه الأعمال تركز أكثر على التأثير الاجتماعي والنفسي مما يعكس التحول في فهم هذه الشخصيات في الثقافة الشعبية، وأحد العوامل الفعالة في هذا التحول هو دور وسائل الإعلام في تعزيز رغبة القاتل العشوائي في السعي إلى الشهرة، ومع تزايد دور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أصبح القاتل العشوائي لا يكتفي بتنفيذ جريمة بل يسعى إلى نشر أعماله عبر الإنترنت بهدف الانتشار السريع، وهذا يضيف بعداً جديداً للعنف العشوائي المعاصر. هل يمكن أن يعود عصر القتلة المتسلسلين؟ سؤال يطرحه عدد من المتخصصين في علم الجريمة، وبخاصة مع التحولات الاجتماعية والتكنولوجية التي تشهدها المجتمعات، وعلى رغم تراجع عدد الجرائم المتسلسلة خلال الأعوام الأخيرة فقد تعيد عوامل جديدة مثل “العزلة الرقمية” إحياء هذا النوع من الإجرام، ومع تزايد العزلة الفردية في عالم مشبع بالمنصات الاجتماعية الرقمية فقد يخلق ذلك بيئة ملائمة للقتلة المتسلسلين الذين يسعون إلى السيطرة أو الهرب من واقعهم عبر أفعالهم المروعة، ومثال ذلك فيلم “لا تعبث مع القطط” الذي يعرض كيف يمكن لأفعال مروعة أن تنطلق من العزلة الرقمية، إذ يحكي الوثائقي قصة لوكاس لوكا مانيا الذي بدأ بتصوير مقاطع فيديو يعذب فيها حيوانات بريئة ثم انتقل إلى ارتكاب جرائم أكثر عنفاً، ومن خلال منصات الإنترنت جذب مانيا الانتباه وخلق مجتمعاً حول جرائمه، مظهراً كيف يمكن للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي الإسهام في تنمية ميول القاتلين المتسلسلين، سواء بالتحريض أو توفير منصة لتضخيم أفعالهم. وفي المقابل تقدم تقنيات جديدة في علم الجريمة، مثل تحليل البيانات الكبير والتعرف على الأنماط السلوكية، فرصة مهمة للتصدي لهذا النوع من الجرائم قبل وقوعها، فالعلم والتكنولوجيا يعززان قدرة الأجهزة الأمنية على التحري والكشف الباكر عن المجرمين، وبالتالي رفع الوقاية الفعالة. وفي النهاية فإن الحقيقة المؤكدة هي أن القاتل المتسلسل والعشوائي على حد سواء يشكلان تهديداً خطراً للمجتمع، لكن الفارق بينهما يكمن في كيفية تأثير كل نوع في النفس الجمعية، وكيف يجري تصويرهما في الذاكرة الثقافية، فالقاتل المتسلسل صورة للفزع المستمر والممتد، بينما نظيره العشوائي يمثل الفوضى العارمة التي تضرب فجأة ثم تختفي، تاركة خلفها أثراً مدمراً لا يُنسى. المزيد عن: العراقأميركاالمسلسلاتأفلامالقاتل المتسلسلالقاتل العشوائيجرائمالشرطة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post قصور فجيج التاريخية… عندما ابتكر المغرب تجمعات سكنية next post مايكل بيكلي يكتب عن: النصر الغريب لأميركا المتصدعة You may also like لماذا أخفت الاستخبارات عن الملكة إليزابيث قصة الجاسوس... 15 يناير، 2025 قصور فجيج التاريخية… عندما ابتكر المغرب تجمعات سكنية 15 يناير، 2025 الجواري والموسيقى.. وجهان لثراء الحياة في قصور الخلافة... 12 يناير، 2025 مصريون أموات في السجلات أحياء على الأرض 12 يناير، 2025 خبرات المصريين تعيش في أمثالهم الشعبية… المندثرة 12 يناير، 2025 من الحب ما قتل… كيف لعلاقة زواج أن... 10 يناير، 2025 الذكاء الاصطناعي والجريمة… البربرية بأحدث التقنيات 10 يناير، 2025 ديمي مور «في حالة صدمة» بعد فوزها بأول... 7 يناير، 2025 جنبلاط متمسك بقائد الجيش ودعواتٌ لإنجاح الجلسة 7 يناير، 2025 الألقاب الطبقية في مصر… تشريف وسخرية وتخليص مصالح 6 يناير، 2025