ثقافة و فنونعربي الفن بين الحلم والغرابة لفوسلي العائد إلى فرنسا بعد قرنين by admin 12 ديسمبر، 2022 written by admin 12 ديسمبر، 2022 14 “الكابوس” يمزج بين العالم الجواني والواقع البراني ليتحدى العقلانية اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب قبل نهايات عام 2022، لم يكن معظم المهتمين بتاريخ الفن التشكيلي من الفرنسيين يعرفون شيئاً عن الرسام “الإنجليزي” يوهان هاينريخ فوسلي. وهم حتى لو كان الاسم ذكر أمامهم مرة أو مرات، كان من الصعب عليهم أن يتذكروا إلى أي بلد ينتمي. فالاسم كان في حد ذاته غامضاً غموض التيارات الفنية التي قد يكون منتمياً إليها. قد يوحي الاسم بأن صاحبه نمسوي أو من الشمال الإيطالي أو أي شيء من هذا القبيل، ولكن من الصعب تصور أنه اسم سويسري انتقل صاحبه إلى إنجلترا باكراً من المنطقة الألمانية في سويسرا ويحسب منذ بداية مساره الفني على الفن الإنجليزي، مما يعزز صعوبة اعتراف الفرنسيين به. فهو في نهاية الأمر وعلى رغم أنه ولد في البلد المجاور لفرنسا، سويسرا، عاش في إنجلترا البلد الذي أدى عداؤه العميق للفرنسيين إلى امتناع هؤلاء عن الاهتمام بحياته الفنية. ولنضف إلى ذلك أن فوسلي نفسه قد بادل الفرنسيين تجاهلاً بتجاهل، إذ إنه لم يزر البلد الجار من ناحيتين سوى مرتين فصل بينهما ثلاثون عاماً، وكانت الأولى منهما في سبعينيات القرن 18 حين اكتفى بلقاء جان جاك روسو مواطنه الشهير الذي كان أشبه بصلة وصل فكرية بين فرنسا وامتدادها في سويسرا من طريق جنيف، والثانية عام 1810. تجاهل متبادل مهما يكم من أمر، في المرتين اللتين زار فيهما فوسلي فرنسا لم تثر أعماله اهتمام فنانيها أو جمهورها. فهؤلاء كانوا يعيشون قمة المرحلة التنويرية والعقلانية التي ارتبطوا بها في تلك المرحلة من تاريخهم، فيما كان هو سيداً من سادة التعبير الغرائبي والرومنطيقي القائم على الأحلام ينهل من الأدب المعبر عنها. من هنا، لم يكن في وسعه إلا أن يرد على التجاهل بتجاهل. أما الفرنسيون فلقد احتاجوا إلى انتظار أكثر من قرنين قبل أن “يكتشفوا” فوسلي في هذه الأيام بالذات فيدهشهم بنحو سبعين لوحة له عرضت في “القصر الكبير” منذ أواخر الصيف الفائت في المعرض الأول الذي يخصص لأعماله في تاريخ العروض الفرنسية، ويتدفقون تدريجياً بأعداد كبيرة متسائلين كيف حدث أن أفلت منهم هذا “الفنان الاستثنائي” وغاب عن حياتهم الفنية كل تلك الفترة الزمنية التي ربما يكون بعضهم قد سمع به عرضاً خلالها، أو عرف لوحة أو لوحتين من بين أعماله قبل أن يبارح الذاكرة. ولعل كثراً من هؤلاء الأخيرين قد عرفوا من بين أعماله الأكثر شهرة، لوحتين أو ثلاث لوحات حملت عنواناً واحداً هو “الكابوس” ولكن غالباً مع ضياع اسم الرسام نفسه. أما اليوم فالأمور تبدلت جذرياً كما يبدو، ومنذ سبتمبر (أيلول) الفائت حتى الثلث الأخير من يناير (كانون الثاني) المقبل، بات الاحتفال بفوسلي أمراً واقعاً، وبات فوسلي على الأقل من المنظور الفرنسي، واحداً من أساطين الفن الغرائبي ومشاهد الحلم والكابوس في خريطة المذاهب الفنية الكبرى في القرون الثلاثة الماضية. بات لا يمكن الحديث عنه إلا في سياق الحديث عن شكسبير وويليام بليك. بورتريه فوسلي بريشة جيمس نورثكوت (موقع الفنان) بين بليك وشكسبير فهو لئن كانت استعادة أعماله قد كشفت كم أنه كان ملهماً لبليك رسماً وكتابة بل نقلاً مباشراً حتى، تبدى واحداً من أهم الرسامين وأدقهم، الذين استلهموا في لوحات كثيرة لهم بعض أهم المسرحيات الشكسبيرية، وتحديداً مشاهد محددة منها لا سيما من “روميو وجولييت” و”ماكبث”… ولكن دائماً من منظور يستعين بالمشاهد الشكسبيرية الأكثر غرابة، إذ لا تعود اللوحة مجرد تعبير عن تفاصيل المشهد الشكسبيري، بل لوحة مستقلة في ذاتها تحمل موضوعها وشكله بصورة تجعل اللوحة منتمية إلى فن فوسلي وربما بأكثر من انتمائها إلى عالم شكسبير. وهو ما يحققه فوسلي من خلال رسمه مجموعة من لوحات ومشاهد يخيل للمتفرج أول الأمر أن الرسام يحاول عبرها ترجمة الأسطورة اليونانية خصوصاً إلى مشهد بصري. من هنا، تبدو “الكابوس” في مزجها بين الحس الشكسبيري والمشهد الأسطوري وكأنها في العناصر المختلفة التي تتشكل منها مشكلة مشهدها الإجمالي، إعادة خلق لعالم قائم في ذاته يمكن وبكل سهولة فصله عن أصوله الشكسبيرية أو الأسطورية. مشاهد خاصة والحال أن تأمل اللوحة الأساسية وهي الأقدم بالطبع التي تحمل العنوان نفسه والتي حققها فوسلي عام 1782، تضعنا في قلب فن هذا المبدع الذي عرف كيف يستحوذ على مواضيع الآخرين ليعيد تشكيلها منطلقاً من رؤاه الخاصة وكأنه يصور مشاهده الخاصة. وبالنسبة إلى هذه اللوحة بالذات من الواضح أن فوسلي في اشتغاله على مشهد ينتمي إلى عالم الأساطير الجرمانية، إنما تعمد الحفاظ على قسط كبير من الغموض المحيط بالمعاني التي ترتبط بتفسير المشهد نفسه بصورة إجمالية وتفسير كل عنصر من عناصره. وهذه العناصر تكون جميعها عالماً ليلياً غرائبياً وكابوسياً محوره تلك المرأة الراقدة بشكل يتضافر فيه الرعب مع الواقع، من خلال كابوس من البديهي أن المرأة تعيشه وقد التف جسدها بملاءات متراكمة بعضها فوق بعض مكونة من أقمشة تبدو وكأنها كفن لموت مقبل. هذا الموت يبدو هنا واقعياً، على عكس المكونات الحيوانية في معظمها والتي تعبر عما “يحدث” في الكابوس في هذا الجانب الغرائبي من المشهد. والحقيقة أن كابوسية هذه العناصر هي “اللغز” الذي يكون العنصر الأساس ليس في اللوحة نفسها فحسب، بل في فن فوسلي أيضاً. غير أن هذا لا يعني بالطبع أن الفنان يحاول هنا أن يبهر متفرج لوحته ولا أن يجعل من لوحته لغزاً متعمداً. بل يحاول أن يخترق عالم الحالمة نفسها مخترقاً المشهدية التي تجعلها منبطحة على هذا الشكل، وفوق تلك الأقمشة التي تعدها بمصير يشكل رعبها منه الجزء الأقسى من الكابوس الذي تعيشه. تلك اللحظة ومن الواضح هنا أن هذا المزج بين ما هو واقعي براني من تلك اللحظة التي تعيش فيها الحالمة كابوسها، من ناحية، والمشهد الذي تتعايش معه في جوانية أفكارها من ناحية ثانية، هي هي اللحظة التي تطلع الفنان إلى التعبير عنها وذلك من خلال تلك “المجابهة” بين حركية الزمن الذي تعبر عنه الحالمة في رقدتها، وسكونية النظرة التي تلقيها المخلوقات المنتزعة أصلاً من الأساطير الجرمانية متضافرة مع إغريقية رقدة المرأة نفسها، مجابهة ليس الموت بعيداً عنها بأي حال من الحالات. هو في نهاية الأمر ذلك العالم الليلي الساحر والمرعب في الوقت نفسه، العالم الذي صوره فوسلي في معظم لوحاته وأعطاه فرادته التي دائماً ما قربت عمله من عالم الأدب أكثر مما قربه من الفنون التشكيلية، إنما في لغة بصرية دائماً ما بدت مدهشة، ولا سيما اليوم بالنسبة إلى جمهور فرنسي اكتشف بعد تجوال في معرض “الغران باليه” الباريسي، وبعد قرنين ونيف من التجاهل المتبادل بين الرسام والعقلانية الفرنسية، ليس أنه أمام لا عقلانية تحقق عليه انتصاراً كبيراً، بل أمام نوع جديد ومفاجئ من عقلانية صارمة تحاول أن توجد تفسيراً ما لعالم غرائبي لا يخلو من تفسير عالم الحلم في ضوء العقل يبتعد عن أي تبريرية، ليضع الفن من جديد في خدمة الواقع وإن على طريقته الخاصة. قفاز التحدي والحقيقة أن هذا البعد في فن يوهان فوسلي الذي يقربه من عوالم بوكلين كما من ناحية أخرى من عوالم ويليام بليك – واللافت حقاً هنا هو أن بوكلين سويسري، وبليك إنجليزي، مما يجعل الاثنين يبدوان جناحين يتضافران من حول فوسلي السويسري والإنجليزي في آن معاً – وبهذه الملاحظة الأخيرة تكتمل دائرة تمثلت في نظرة الجمهور الفرنسي إلى هذا الفنان النيوكلاسيكي الذي ظهر أمامه بغتة رامياً قفاز التحدي في وجه جمهور يحاول اليوم من خلال هذا المعرض التقاط القفاز، ولكن انطلاقاً من إعجاب لم يكن متوقعاً بفن كبير يتساءل اليوم لماذا كان بعيداً عنه كل هذا البعد؟ المزيد عن: فرنسا\سويسر\ايوهان هاينريخ فوسلي\شكسبير\ويليام بليك\بوكلين\جان جاك روسو 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post العادات المغربية الجديدة تفرض نفسها على رقصة “أحواش” next post 14 عارضا من أعراض سرطان البنكرياس من المرجح أن تتجاهلوها You may also like مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024 عبده وازن يكتب عن: فيروز تطفئ شمعة التسعين... 21 نوفمبر، 2024 “موجز تاريخ الحرب” كما يسطره المؤرخ العسكري غوين... 21 نوفمبر، 2024