ثقافة و فنونعربي “العرس” التونسية تهز عالم الفن السابع من خلال طموحاتها المسرحية by admin 29 نوفمبر، 2022 written by admin 29 نوفمبر، 2022 77 يوم غزت جماعة “المسرح الجديد” السينما منطلقة من بريخت والواقع الاجتماعي المحلي اندبندنت عربية \ إبراهيم العريس باحث وكاتب كان ذلك خلال أيام قرطاج السينمائية في تونس نهاية سنوات السبعين. وكان من المفترض أن يكون الحدث الكبير يومها عرض فيلم التونسي رضا الباهي “شمس الضباع” في صالة الكوليزيه، وكان قد تجمَّع عند أبواب الصالة منذ ما يزيد عن ساعتين للحصول على أماكن في الصالة الفسيحة أكثر من أربعة آلاف شخص. ولقد احتاج رجال الشرطة لاستعمال العصي لتفريق هذا الحشد الذي تدافع لمشاهدة الفيلم الطويل الأول، لهذا الشاب التونسي المتحدر من القيروان، والذي علَّم نفسه بنفسه، فن السينما. كان هذا الزحام في حد ذاته حدثاً لا يمكن نسيانه. طبعاً لا يهم بعد ذلك أن يكون الجمهور قد أحب الفيلم أو لم يحبه. المهم أن الجمهور قد عبّر في تدفقه عن موقف واضح من القرارات التي ظلت، لعامين، تمنع الفيلم من العرض في تونس، والتي اضطرت حكومتها أخيراً لعرضه، لمجرد أنها لم تعد تجد أي فيلم تونسي آخر تعرضه في أيام قرطاج التي تقام في تونس… وفي وقت تبدو فيه تونس وكأنها بلا سينما. التحفة في مكان آخر ومع هذا لم يكن “شمس الضباع” أهم فيلم تونسي أتيح للناس أن يشاهدوه خلال “أيام قرطاج” تلك وبإجماع النقاد ومحبي السينما… الفيلم التونسي الأهم كان فيلماً متقشفا، بالأسود والأبيض، عرض على هامش المهرجان، دون ضجيج ودون أن يجد من يتبناه… في بلد يمكن لأي كان أن يتبنى أياً كان، في بلد حوّلته عقلية بورقيبة إلى “أبوية” كبيرة. كان اسم الفيلم “العرس”، طوله ساعة ونصف الساعة، ليس له مخرج، وأحداثه تدور في ليلة واحدة، وفي ديكور واحد. كان “العرس” أشبه ما يكون بخليط جمعت أجزاؤه من “العرس لدى البرجوازيين الصغار” لبرتولد بريخت، ومن “مَن يخاف فرجينيا وولف” لإدوارد ألبي… والإشارة إلى المسرحيتين بصدد هذا الفيلم ليست في غير محلها. فالفيلم أصلاً مبني على مسرحية “العرس” التي كانت إحدى أهم إنتاجات فرقة المسرح الجديد. ونجاح المسرحية دفع يومها أعضاء الفرقة (جليلة بكار – محمد إدريس – توفيق الجعايبي – الفاضل الجزيري – والحبيب المسروقي) إلى الاتكال على أنفسهم وعلى قدراتهم وأموالهم الذاتية، والاستعانة بمعونة جزئية، لتحويلها إلى فيلم مفاجئ. جليلة بكار (وسائل التواصل الاجتماعي) مفاضلة مبدئية الذين شاهدوا المسرحية ثم الفيلم، قالوا إن الأداء المسرحي للعمل يظل أفضل بكثير… لكن الذين لم يشاهدوا سوى الفيلم، وجدوا أنفسهم أمام عمل كبير، متقن وقاس، ينتمي إلى سينما فكرية بالغة النمو. ومع هذا كان “العرس” الفيلم الأول لأصحابه. ولكن لا بد لنا هنا من أن نعود إلى المسرحية لأنها بالتحديد وقبل الفيلم بزمن كانت قد فرضت نفسها على الخشبات التونسية ولكن كذلك على خشبات خارجية عديدة وبلا سيما مشرقية وفرنسية. تدور أحداث “العرس” بين عريس وعروسه ليلة “السابع”: الإثنان ينتميان إلى البرجوازية الصغيرة، ويواجهان موقفين: علاقة العروس بصديق للزوج يحتاجه هذا الأخير مالياً، واضطرارهما لترك البيت في اليوم التالي لأن الدولة تريد هدمه. وحول الموقفين يدور بين الإثنين صراع، ويقوم بينهما حوار، ندر أن عرف المسرح العربي ما يوازيه قوة وجدلية. حوار يكشف أخلاقيات طبقة بأسرها، ويكشف عبر هذه الأخلاقيات عن أزمة هذه الطبقة، وعن القيود التي تكبلها والتي لا يمكن لها أن تفلت منها. ترى هل بالإمكان قراءة العمل على مستوى ثان؟ إمكانات متعددة ربما… فالذين يعرفون شيئاً عن أوضاع تونس ككل، يعرفون أن بإمكان المسرحية أن تتجاوز كثيراً ما يمكن فهمه عبر أحداثها وقراءتها الأولى. هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل فالمسرحية – الفيلم، تطرح إمكانيات لا حصر لها، تلخصها فرقة المسرح الجديد على الشكل التالي: – نحن الذين نتحكم بوسائل إنتاجنا المسرحي بطريقة لا تجعلنا في علاقة تبعية مادية لهذه المؤسسة أو تلك المنظمة. – همنا البحث عن أساليب جديدة تساعدنا على الإنتاج وكل عمل جديد لنا هو خطوة في عملية البحث. – من همومنا الأساسية تغيير “الكلام المسرحي” وأشكاله التقليدية، والخروج به من الطريق المعبدة، و”مقاطعة” النماذج الغربية. – ليست لدينا مشكلة مؤلف أو مخرج أو مصمم مناظر أو ممثل. فنحن جميعاً منتجون مسؤولون عن التوزيع الضروري للمهمات التي يتطلبها الإنتاج. – “الكلام المسرحي” لدينا يستمد كينونته من الميثولوجيا اليومية بكل ما تحتويه من قيم واعتقادات مزيفة بالية. جديد على كل صعيد والواقع أن من شاهد مسرحية “العرس” على تقشفها ومن شاهد الفيلم بعد ذلك، كان لا بد له أن يفاجأ بأن فرقة المسرح الجديد، على غير عادة الفرق العربية المشابهة، تسير بدقة على هدى برنامجها. وحتى لئن كان المنهج الذي اتبعه هذا المسرح في عمله كان يبدو سائدا في هذا النمط دون أن يكون جديدا تماما في المناخ الشبابي والنضالي العام – من طريق الفن – في تلك الحقبة من الزمن التي اندلعت فيها ثورات الشبيبة من حول ربيع باريس 1968 بصورة عامة، حيث تلاشت الحدود الفاصلة بين النضال السياسي في الشارع، والنضال الإجتماعي والثوري من طريق الفن ومن طريق المسرح بشكل خاص، فإن ما بدا متميزا في ذلك الحراك المسرحي التونسي، إنما كان قدرته على أن ينهل من مجمل التجديدات التي كانت قد طرأت على المناخات المسرحية في توليفة خلاقة قادها ذلك الخماسي المتفاني في سبيل المسرح ومن حوله رفاق عرفوا جميعا كيف يربطون بين تراث مسرحي كان قد بات عريقا في ذلك البلد، وغالبا ما يعطي مكان الصدارة للمرأة في حياته العامة، كما في الأدوار المناطة بها، وينطلق في ذلك من تلك التجديدات المدهشة التي أضفاها نظام الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بالنسبة إلى القوانين المتعلقة بمكانة وحقوق وواجبات المرأة في المجتمع، وهي قوانين لا تزال تشكل ضمانة لثبات وضعية المرأة التونسية الأكثر تقدما وحتى يومنا هذا مقارنة بوضعية المرأة العربية والمسلمة بصورة عامة. في الداخل والخارج ولعل ما لا بد لنا من ملاحظته في هذا السياق هو أن ذلك الواقع التونسي الذي بدا دائما متميزا في المجتمع نفسه، كان هو هو ما ميز أسلوب التعاطي الداخلي في نشاط وإدارة الفرقة المسرحية التي نتناولها هنا، ومن ثم في موضوع مسرحية “العرس” نفسها؛ حيث، ومن دون أن يبدو ذلك مقصودا لبعده الإيديولوجي، عرفت المسرحية كيف تظهر ضعف الرجل وتكالبه وحيرته مقابل قوة المرأة وثقتها بنفسها وبتصرفاتها وصولا إلى قدرتها على إمساك الموقف برمته. ومن هنا حتى نقول أن ذلك البعد المثلث لوضعية المرأة في المجتمع والحياة العامة، ووضعية المرأة في الحراك الإداري المسرحي ومن ثم وضعها في سياق المسرحية نفسها، ونقول أن ذلك كله قد أبرز يومها الفنانة جليلة بكار كقطب الرحى في الفرقة بين رفاقها المؤسسين، خطوة لا بد من قطعها بفضل شخصية جليلة بكار نفسها حتى وإن كان توزيع النشاطات بين المؤسسين الخمس كان عادلا. ففي نهاية الأمر لم يفت كثر من المراقبين أن يلاحظوا كيف كان بالإمكان في ذلك الحين، المقاربة بين ما تمثله جليلة بكار في سياق عمل “فرقة المسرح الجديد”، كما في الحراك النضالي الاجتماعي في تونس الستينيات والسبعينيات، وما تمثله في فرنسا القريبة والمقتداة، سيدة مسرح أخرى هي آريان منوشكين في حراك “فرقة مسرح الشمس” التي كانت من بين كبار مؤسسيها هناك. ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة التاريخية إن نحن أشرنا إلى أن هذه الفرقة بأدائها المسرحي الفني والسياسي وبفكرانيتها “الجندرية”، قد تمكنت من أن تخلق مثالا يحتذى في مناطق عربية متعددة تميزت على خطى الفرقة التونسية بتقدمية نضالية (ومن ذلك فرقة المحترف المسرحي في لبنان، التي كان من أبرز سماتها وجود الفنانة اللبنانية نضال الأشقر فيها في مكانة تبدو متطابقة مع مكانة بكار في تونس…) وبوعي خلاق ربط القضية المسرحية بالقضايا الكبرى في المجتمع. والحقيقة أن هذا كله كان ماثلا في الأذهان في تلك الدورة من “أيام قرطاج” التي خلقت وعيا مسرحيا – سينمائيا مدهشا من حول مسرحية مؤفلمة لم تكن كل هذا واضحا فيها للجمهور الجديد. المزيد عن:المسرح التونسي\جليلة بكار\أيام قرطاج\برتولد بريخت 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post عبدالعزيز المقالح… يكمل حفر الثغور ويموت على وجه الجدار next post باتريس بافيس يتوقع موت الإخراج التقليدي في المسرح You may also like نظرية فوكوياما عن “نهاية التاريخ” تسقط في غزة 29 نوفمبر، 2024 لماذا لا يعرف محبو فان غوخ سوى القليل... 29 نوفمبر، 2024 جائزة الكتاب النمساوي لرواية جريمة وديوان شعر ذاتي 29 نوفمبر، 2024 طفولة وبساطة مدهشة في لوحات العراقي وضاح مهدي 29 نوفمبر، 2024 استعادة كتاب “أطياف ماركس” بعد 20 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 تحديات المخرج فرنسوا تروفو بعد 40 عاما على... 28 نوفمبر، 2024 21 قصيدة تعمد نيرودا نسيانها فشغلت الناس بعد... 28 نوفمبر، 2024 الرواية التاريخية النسوية كما تمثلت لدى ثلاث كاتبات... 28 نوفمبر، 2024 بودلير وهيغو… لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم... 27 نوفمبر، 2024 شوقي بزيع يكتب عن: شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد... 27 نوفمبر، 2024
كان ذلك خلال أيام قرطاج السينمائية في تونس نهاية سنوات السبعين. وكان من المفترض أن يكون الحدث الكبير يومها عرض فيلم التونسي رضا الباهي “شمس الضباع” في صالة الكوليزيه، وكان قد تجمَّع عند أبواب الصالة منذ ما يزيد عن ساعتين للحصول على أماكن في الصالة الفسيحة أكثر من أربعة آلاف شخص. ولقد احتاج رجال الشرطة لاستعمال العصي لتفريق هذا الحشد الذي تدافع لمشاهدة الفيلم الطويل الأول، لهذا الشاب التونسي المتحدر من القيروان، والذي علَّم نفسه بنفسه، فن السينما. كان هذا الزحام في حد ذاته حدثاً لا يمكن نسيانه. طبعاً لا يهم بعد ذلك أن يكون الجمهور قد أحب الفيلم أو لم يحبه. المهم أن الجمهور قد عبّر في تدفقه عن موقف واضح من القرارات التي ظلت، لعامين، تمنع الفيلم من العرض في تونس، والتي اضطرت حكومتها أخيراً لعرضه، لمجرد أنها لم تعد تجد أي فيلم تونسي آخر تعرضه في أيام قرطاج التي تقام في تونس… وفي وقت تبدو فيه تونس وكأنها بلا سينما. التحفة في مكان آخر ومع هذا لم يكن “شمس الضباع” أهم فيلم تونسي أتيح للناس أن يشاهدوه خلال “أيام قرطاج” تلك وبإجماع النقاد ومحبي السينما… الفيلم التونسي الأهم كان فيلماً متقشفا، بالأسود والأبيض، عرض على هامش المهرجان، دون ضجيج ودون أن يجد من يتبناه… في بلد يمكن لأي كان أن يتبنى أياً كان، في بلد حوّلته عقلية بورقيبة إلى “أبوية” كبيرة. كان اسم الفيلم “العرس”، طوله ساعة ونصف الساعة، ليس له مخرج، وأحداثه تدور في ليلة واحدة، وفي ديكور واحد. كان “العرس” أشبه ما يكون بخليط جمعت أجزاؤه من “العرس لدى البرجوازيين الصغار” لبرتولد بريخت، ومن “مَن يخاف فرجينيا وولف” لإدوارد ألبي… والإشارة إلى المسرحيتين بصدد هذا الفيلم ليست في غير محلها. فالفيلم أصلاً مبني على مسرحية “العرس” التي كانت إحدى أهم إنتاجات فرقة المسرح الجديد. ونجاح المسرحية دفع يومها أعضاء الفرقة (جليلة بكار – محمد إدريس – توفيق الجعايبي – الفاضل الجزيري – والحبيب المسروقي) إلى الاتكال على أنفسهم وعلى قدراتهم وأموالهم الذاتية، والاستعانة بمعونة جزئية، لتحويلها إلى فيلم مفاجئ. جليلة بكار (وسائل التواصل الاجتماعي) مفاضلة مبدئية الذين شاهدوا المسرحية ثم الفيلم، قالوا إن الأداء المسرحي للعمل يظل أفضل بكثير… لكن الذين لم يشاهدوا سوى الفيلم، وجدوا أنفسهم أمام عمل كبير، متقن وقاس، ينتمي إلى سينما فكرية بالغة النمو. ومع هذا كان “العرس” الفيلم الأول لأصحابه. ولكن لا بد لنا هنا من أن نعود إلى المسرحية لأنها بالتحديد وقبل الفيلم بزمن كانت قد فرضت نفسها على الخشبات التونسية ولكن كذلك على خشبات خارجية عديدة وبلا سيما مشرقية وفرنسية. تدور أحداث “العرس” بين عريس وعروسه ليلة “السابع”: الإثنان ينتميان إلى البرجوازية الصغيرة، ويواجهان موقفين: علاقة العروس بصديق للزوج يحتاجه هذا الأخير مالياً، واضطرارهما لترك البيت في اليوم التالي لأن الدولة تريد هدمه. وحول الموقفين يدور بين الإثنين صراع، ويقوم بينهما حوار، ندر أن عرف المسرح العربي ما يوازيه قوة وجدلية. حوار يكشف أخلاقيات طبقة بأسرها، ويكشف عبر هذه الأخلاقيات عن أزمة هذه الطبقة، وعن القيود التي تكبلها والتي لا يمكن لها أن تفلت منها. ترى هل بالإمكان قراءة العمل على مستوى ثان؟ إمكانات متعددة ربما… فالذين يعرفون شيئاً عن أوضاع تونس ككل، يعرفون أن بإمكان المسرحية أن تتجاوز كثيراً ما يمكن فهمه عبر أحداثها وقراءتها الأولى. هذا من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل فالمسرحية – الفيلم، تطرح إمكانيات لا حصر لها، تلخصها فرقة المسرح الجديد على الشكل التالي: – نحن الذين نتحكم بوسائل إنتاجنا المسرحي بطريقة لا تجعلنا في علاقة تبعية مادية لهذه المؤسسة أو تلك المنظمة. – همنا البحث عن أساليب جديدة تساعدنا على الإنتاج وكل عمل جديد لنا هو خطوة في عملية البحث. – من همومنا الأساسية تغيير “الكلام المسرحي” وأشكاله التقليدية، والخروج به من الطريق المعبدة، و”مقاطعة” النماذج الغربية. – ليست لدينا مشكلة مؤلف أو مخرج أو مصمم مناظر أو ممثل. فنحن جميعاً منتجون مسؤولون عن التوزيع الضروري للمهمات التي يتطلبها الإنتاج. – “الكلام المسرحي” لدينا يستمد كينونته من الميثولوجيا اليومية بكل ما تحتويه من قيم واعتقادات مزيفة بالية. جديد على كل صعيد والواقع أن من شاهد مسرحية “العرس” على تقشفها ومن شاهد الفيلم بعد ذلك، كان لا بد له أن يفاجأ بأن فرقة المسرح الجديد، على غير عادة الفرق العربية المشابهة، تسير بدقة على هدى برنامجها. وحتى لئن كان المنهج الذي اتبعه هذا المسرح في عمله كان يبدو سائدا في هذا النمط دون أن يكون جديدا تماما في المناخ الشبابي والنضالي العام – من طريق الفن – في تلك الحقبة من الزمن التي اندلعت فيها ثورات الشبيبة من حول ربيع باريس 1968 بصورة عامة، حيث تلاشت الحدود الفاصلة بين النضال السياسي في الشارع، والنضال الإجتماعي والثوري من طريق الفن ومن طريق المسرح بشكل خاص، فإن ما بدا متميزا في ذلك الحراك المسرحي التونسي، إنما كان قدرته على أن ينهل من مجمل التجديدات التي كانت قد طرأت على المناخات المسرحية في توليفة خلاقة قادها ذلك الخماسي المتفاني في سبيل المسرح ومن حوله رفاق عرفوا جميعا كيف يربطون بين تراث مسرحي كان قد بات عريقا في ذلك البلد، وغالبا ما يعطي مكان الصدارة للمرأة في حياته العامة، كما في الأدوار المناطة بها، وينطلق في ذلك من تلك التجديدات المدهشة التي أضفاها نظام الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بالنسبة إلى القوانين المتعلقة بمكانة وحقوق وواجبات المرأة في المجتمع، وهي قوانين لا تزال تشكل ضمانة لثبات وضعية المرأة التونسية الأكثر تقدما وحتى يومنا هذا مقارنة بوضعية المرأة العربية والمسلمة بصورة عامة. في الداخل والخارج ولعل ما لا بد لنا من ملاحظته في هذا السياق هو أن ذلك الواقع التونسي الذي بدا دائما متميزا في المجتمع نفسه، كان هو هو ما ميز أسلوب التعاطي الداخلي في نشاط وإدارة الفرقة المسرحية التي نتناولها هنا، ومن ثم في موضوع مسرحية “العرس” نفسها؛ حيث، ومن دون أن يبدو ذلك مقصودا لبعده الإيديولوجي، عرفت المسرحية كيف تظهر ضعف الرجل وتكالبه وحيرته مقابل قوة المرأة وثقتها بنفسها وبتصرفاتها وصولا إلى قدرتها على إمساك الموقف برمته. ومن هنا حتى نقول أن ذلك البعد المثلث لوضعية المرأة في المجتمع والحياة العامة، ووضعية المرأة في الحراك الإداري المسرحي ومن ثم وضعها في سياق المسرحية نفسها، ونقول أن ذلك كله قد أبرز يومها الفنانة جليلة بكار كقطب الرحى في الفرقة بين رفاقها المؤسسين، خطوة لا بد من قطعها بفضل شخصية جليلة بكار نفسها حتى وإن كان توزيع النشاطات بين المؤسسين الخمس كان عادلا. ففي نهاية الأمر لم يفت كثر من المراقبين أن يلاحظوا كيف كان بالإمكان في ذلك الحين، المقاربة بين ما تمثله جليلة بكار في سياق عمل “فرقة المسرح الجديد”، كما في الحراك النضالي الاجتماعي في تونس الستينيات والسبعينيات، وما تمثله في فرنسا القريبة والمقتداة، سيدة مسرح أخرى هي آريان منوشكين في حراك “فرقة مسرح الشمس” التي كانت من بين كبار مؤسسيها هناك. ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة التاريخية إن نحن أشرنا إلى أن هذه الفرقة بأدائها المسرحي الفني والسياسي وبفكرانيتها “الجندرية”، قد تمكنت من أن تخلق مثالا يحتذى في مناطق عربية متعددة تميزت على خطى الفرقة التونسية بتقدمية نضالية (ومن ذلك فرقة المحترف المسرحي في لبنان، التي كان من أبرز سماتها وجود الفنانة اللبنانية نضال الأشقر فيها في مكانة تبدو متطابقة مع مكانة بكار في تونس…) وبوعي خلاق ربط القضية المسرحية بالقضايا الكبرى في المجتمع. والحقيقة أن هذا كله كان ماثلا في الأذهان في تلك الدورة من “أيام قرطاج” التي خلقت وعيا مسرحيا – سينمائيا مدهشا من حول مسرحية مؤفلمة لم تكن كل هذا واضحا فيها للجمهور الجديد. المزيد عن:المسرح التونسي\جليلة بكار\أيام قرطاج\برتولد بريخت