مشهد من المسرحية التونسية الفائزة "البخارة" (خدمة المهرجان) ثقافة و فنون التلوث يغرق العالم في “البخارة” والممثلون يبحثون عن الشمس by admin 30 يناير، 2025 written by admin 30 يناير، 2025 14 بعد التانيت الذهبي المسرحية التونسية “البيئية” تحوز جائزة المسرح العربي اندبندنت عربية / سامر محمد إسماعيل تروي مسرحية “البخارة” حكاية عائلة تعيش تحت رحمة كوارث بيئية متعددة، فالأب المولدي (رمزي عزيز) رجل مغلوب على أمره، يعاني أمراضه الجسدية والنفسية بصمت بعد وصوله سن التقاعد. وتنعكس هذه المعاناة على ابنته دلال (مريم بن حسن) وخطيبها يحيى (علي بن سعيد)، ويحلم الشابان بحياة عاطفية متوازنة، لكن أبخرة مصانع مدينة قابس تجثم فوق رأسيهما، والهواء الأصفر يحيط بالحبيبين الشابين، مثلما يحاصر سكان الحي الذي يقطنانه قبالة خليج المدينة المتوسطية. ولن تكون المعالجة الفنية بهذه السهولة، فالدراما تنسل ببطء عبر مواقف تبدو للوهلة الأولى بسيطة وعادية، لكنها في العمق تجسد حجم الدمار الروحي الذي ألم بالعائلة، فترك ندوبه في أدق تفاصيل العيش وأكثرها حساسية. و”البخارة” في التونسية الدارجة هي الأبخرة التي تتصاعد من معامل تكرير الفوسفات والمعادن. وتعكس الإضاءة الصفراء الشاحبة (محمد عربي حشاد) هذا منذ بداية العرض. “وين الشمس” سؤال يفتتح هذا النقاش، بل ويتكرر مرات ومرات على ألسنة الشخصيات التي تبدو وكأنها تطفو في فراغ من العدمية والبؤس واللا جدوى. أب مصاب بالسرطان يضيق الخناق على شابين في أوج حضورهما الجسدي والعاطفي، ورجل يُدعى نضال (بليغ مكي) يطل على العائلة من باب الثورة على الواقع، ويحمل زجاجة حارقة (مولوتوف) ويصرخ بأهالي الحي “نريدكم أن تعيشوا بكرامة وأن تتنفسوا هواءً نظيفاً”. الممثلون على الخشبة يبحثون عن الشمس (خدمة المهرجان) على الجهة الأخرى يطل عماد (بلال سلاطينة) وهو الشخصية المضادة لرجل الثورة وحامل لواء التغيير. وعماد هذا أيضاً بأناقته ولكنته الفرنكوفونية يشكل شخصية مضادة ليحيى، فهو من نوع الرجال الذين يصطادون الفرص ويكافحون بكل قواهم كي يظلوا في واجهة الحياة الاجتماعية. مناخ ملوث خمس شخصيات تتحرك في مناخ ضبابي ومكفهر ومنقبض، وتبدو حيرتها في ازدياد مع كل دقيقة من زمن العرض (فرقة أوبرا تونس- قطب المسرح). حوارات تذكرنا بمسرح العبث، لكنها سرعان ما تعود وتخبرنا عن حجم العزلة التي تعيشها بفعل تسمم الهواء وانبعاثات مداخن المصانع. لا شمس هنا ولا هواء، فالشطآن غارقة في الرطوبة الممزوجة بروائح تفسد صدور البشر، وتجعلها مرتعاً لأمراض السرطان وذات الرئة. لا بحر ولا قمر ولا أشجار. لقد قضى التلوث البيئي على مجمل نواحي الحياة. انتقادات لاذعة يرسلها العرض بعيداً من المباشرة، إذ تكفل توجه الأداء للممثلين وحركتهم المترددة بين جدران البيت الأقرب إلى زنازين إفرادية بإخبار الجمهور عن كل شيء. ويمضي العرض في مواجهات تختلط فيها الفكاهة بالمرارة وضيق ذات اليد، فالأب يقعي فوق حقائب ماضيه وحنينه إلى زمن يشبهه. أما ابنته الشابة وخطيبها فيحاولان عبثاً ضبط إشارات الهوائي لالتقاط بث قنوات تخبرهما بحدث سعيد، لكن عبثاً، فالهوائي لا يعمل في جو من الموات البيئي الذي طال الحجر والشجر قبل أن يجهز على صحة البشر وعافيتهم. التلوث حجب الضوء (خدمة المهرجان) كل هذا سينحسر أمام التلوث الذي أصاب الذاكرة الجماعية، شلل تام وعجز عن التخيل، وإذعان لمصير بات يتهدد الجميع. ويعود السؤال مجدداً “وين الشمس”؟ سؤال لا تلبث الشخصيات أن تسأله كاحتجاج على الدمار الذي يحيط بها. أسماك وأطفال ونساء يسبحون في بحر من الملوثات الصناعية، ولا أفق يرتجى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. تندفع شخصيات “البخارة” إلى رقص أشبه برقصات الطيور المذبوحة، وتختلط مشاعر الفرجة بمشاهد وأصوات استغاثات يائسة. التصاعد واضح في توفير الفراغ لتحرك الممثلين، ورسم منظر ثابت لأريكة باهتة تتخذها الشخصيات ملاذاً لها في ذهابها وإيابها، إذ لا زيادة ولا نقصان على الفضاء المتروك لبقع ضوئية حمراء تتماهى مع غلالات الضوء الأصفر الذي ترك له مخرج العرض حضوره اللافت في تجسيد الحصارين البيئي والنفسي الذي تعيش فيه شخصيات “البخارة”. بنية صوتية هذا التقشف المقصود تزامن مع لعب على بنية صوتية خاصة للمؤدي. انتقال إثر انتقال من الصراخ إلى النبرة الهامسة والقريبة من المتلقي. لا شيء هنا يستحق عناء التقافز على الخشبة، فالبشر مثلهم مثل أسماك البحر التي لفظها كجثث مثقلة بمخلفات المعادن والنفط والأصباغ الكيماوية. لا عزاء أيضاً لأبطال “البخارة”، فالموت يترصدهم مع كل شهيق وزفير، ويدفع بهم قدماً إلى مصير مئات الأشخاص الذين يموتون بصمت على شاطئ تغيب عنه صباحاته، فيما يثقل ليله ويتلاشى في لجة من سحب حبلى بنفايات بلاد الشمال ومخلفات معاملهم الكبرى. مشهد من المسرحية (خدمة المهرجان) أناقة غير مسبوقة في تمرير بنية مغايرة عن السرديات السائدة، والقطيعة مع مسرح الصراخ والشكوى. بل على العكس، يُمكن الغرق في تورمات داخلية عبر بطء ورتابة مقصودين. مزامنة للأفعال وردود الفعل ضمن سياق جمالي يترك للممثل حريته في اكتشاف نوع الأداء الذي ينتمي إليه. وهذا ما كرسه مخرج “البخارة” في محاولة إسقاط التلوث الصناعي على التلوث الأخلاقي لشخصياته المتآكلة من الداخل. من جهة أخرى، يبدو إصرار العرض التونسي على نبرته الساخرة من عالم يموت كل لحظة، واحداً لا يستطيع مد يد العون لسكانه. فكل شيء متسخ هنا حتى الضوء، وعليه يصبح من الصعب اتهام طرف على حساب طرف آخر، فالجميع مشارك في مقتلة صامتة، والجميع يرى خراب الدورة الدموية للطبيعة الأم. لكن كل هذا يمر عفو الخاطر عند عقود الشركات الكبرى ومصانعها التي تدفن قاذوراتها البيئية في بلاد الجنوب. ومع نهاية العرض تعود الشخصيات لتتكور على نفسها فوق الأريكة، ويعلو صوت موسيقى (وضاح العوني) يتداخل مع أصوات آلات ومصانع ونباح الكلبة (لايكا). نباح لا ينقطع وكأنه يقرع جرس إنذار لكارثة وشيكة. يغيب كل شيء مع تكرار السؤال ذاته “أين الشمس؟ نحن نعيش هنا ولا نعرف متى ينتهي هذا الليل”. مشهد يبدو خاتمة لعرض ينتمي بقوة إلى المسرح الملتزم، والذي تحمل لواءه اليوم طليعة من الجيل الجديد في المسرح التونسي، بعد عطاء كبير لجيل كل من فاضل الجعايبي وجليلة بكار وعز الدين قنون، جنباً إلى جنب مع كل من توفيق الجبالي وليلى طوبال والفاضل الجزيري ورجاء بن عمار. المزيد عن: مسرحية تونسيةالتلوثالبيئةمهرجان مسرحيجائزة المسرح العربيممثلونالإخراجالفساد 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ترمب سيحبس المهاجرين في غوانتنامو والرئيس الكوبي: وحشية next post “ما وراء التلال” فيلم روماني عن المنافس الوحيد الذي لن يهزمه الحب You may also like أعمال والت ويتمان الكاملة عربها عابد إسماعيل مع... 30 يناير، 2025 كاهن من كابول يطمح في أن يكون البابا... 30 يناير، 2025 “ما وراء التلال” فيلم روماني عن المنافس الوحيد... 30 يناير، 2025 ظاهرة الزواج العصري المأزوم في مقاربة فلسفية 30 يناير، 2025 “موجز تاريخ الأدب البولندي” يرصد محطات الشيوعية وما... 30 يناير، 2025 فيلم “الخرطوم”: توثيق إرث ضائع وسط لهيب الحرب 30 يناير، 2025 محمود الزيباوي يكتب عن: أفاعي موقع مسافي في... 28 يناير، 2025 جماليات التجريد الغنائي في لوحات جنان الخليل 28 يناير، 2025 قضايا الحرية والهوية والاغتراب تشغل 5 مجموعات قصصية 28 يناير، 2025 ياباني يكتب رواية صينية معاصرة عن الذاكرة الثقافية 28 يناير، 2025