التاريخ تعاد دوماً كتابته إذ غالباً ما يكتشف المؤرخون وثائق تغير نظرتهم إلى شخصية معينة (أ ف ب) ثقافة و فنون أدب السيرة… حيوات قديمة يعاد بناؤها by admin 22 يوليو، 2024 written by admin 22 يوليو، 2024 87 في عالم تتسارع خطواته يجد بعضنا أن العودة للماضي تسمح بفهم أفضل لمجريات الأحداث والتعلم من تجارب الآخرين اندبندنت عربية / مارلين كنعان أستاذة الفلسفة والحضارات، كاتبة وباحثة @MARLKANAAN من يتابع مثلي الإصدارات الجديدة في فرنسا يلاحظ عودة قوية لكتب أدب السيرة بعد أعوام من النسيان، فكثيرة هي العناوين التي تهتم بسرد مسرى حياة شخصية معينة من المشاهير، سواء كانت سياسية أو عسكرية أو أدبية أو علمية أو فنية، بالاستناد إلى عمل بحثي دقيق لا يتردد واضعه أحياناً في الاستعانة بالخيال، إلى جانب درس الوثائق والحقبة التاريخية التي عاشت فيها الشخصية موضوع الكتاب، بغية إعادة تكوين حياتها الخاصة والعامة، ولعل الصيف هو أكثر الفصول مناسبة لقراءة هذه السير الذاتية أو الغيرية التي خط محطاتها كاتب طالما اهتم بحياة البشر وتجاربهم اهتماماً كبيراً. كافكا اللامنتهي تتصدر بعض هذه العناوين قائمة الكتب الأكثر مبيعاً كسيرة الروائي والقاص التشيكي فرانز كافكا (1883- 1924)، التي كتبها الباحث الألماني راينر ستاغ في ثلاثة مجلدات، والتي تتواصل ترجمتها إلى لغات عالمية، وقد صدر حديثاً الجزء الثالث منها بالترجمة الفرنسية، أو سيرة المقاومة وعالمة الإتنوغرافيا الفرنسية جيرمان تيون (1907 – 2008) وغيرهما من المشاهير. وفي عالم تتسارع وتيرة خطواته يجد بعضنا أن العودة للوراء والاهتمام بالماضي من خلال التعرف على حياة كاتب أو قائد أو من كان له دور في صنع التاريخ، تسمح لنا في بعض الأحيان بفهم أفضل لمجريات الأحداث والتعلم من تجارب الآخرين، فأدب السيرة أو البيوغرافيا يعكس تاريخ وثقافة شعب من خلال استعادة مسيرة أحد أفراده في إنجازاته وانتصاراته وانهزاماته، مما يساعد القارئ في تعزيز وعيه الثقافي والحضاري والتاريخي، كما أن أدب السيرة يشجع على التحليل النفسي والاجتماعي للأشخاص وتأثيرهم في المجتمعات التي يعيشون فيها. كتب فرانز كافكا معروضة بمتجر سياحي في براغ، 19 أكتوبر 2007 (أ ف ب) تعترف أوديل، وهي امرأة متقاعدة في مقابلة أجرتها معها مجلة “لاكروا” الفرنسية، أنها تحب قراءة السير الذاتية أكثر من قراءة الروايات أو الكتب التاريخية لما فيها من فائدة، إذ إن متابعة مسار حياة شخص ما والدخول إلى كنف عائلته والمشاركة في نضالاته وأفراحه وأحزانه، ولو عبر صفحات الكتب، تمكنها من فهم بعض الأحداث والحقب التاريخية بطريقة سهلة وممتعة. أما جنفياف فتتذكر أنها قرأت سيرة تاليران وماري أنطوانيت ونيلسون مانديلا، معترفة أن ما يثير اهتمامها في أدب السِّير هو الدخول إلى حياة الشخص، وليس قراءة سلسلة من الذكريات تمجد أفعاله. توضح هذه الأقوال المسؤولية الملقاة على عاتق كاتب هذا النوع من الأدب، فهو ملزم بالقيام بتحقيق موضوعي دقيق يعيد تركيب تفاصيل حياة الشخصية التي يتناول سيرتها، على ما تقول بياتريكس دو لولنوا، واضعة سيرة ابن عم لويس الـ14 “الكونت الكبير” التعس في الحب، والذي دحر الإسبان في روكروا ولم يكن بعد قد تجاوز الـ21 من عمره، متنقلاً من نصر إلى آخر، وواضعة سيرة ونستون تشرشل أيام ديغول وفرنسا الحرة وغيرها من السير، مشددة على أن الكاتب حتى ينجح في كتابة سيرة ما فيجب أن يضع نفسه مكان الشخصية التي يحكي مسارها، وأن “يعيش في زمنها”، مما يقوده أحياناً إلى إعادة النظر في بعض الأحداث. تاريخ مستعاد دوماً بدوره يشرح عضو الأكاديمية الفرنسية للعلوم الأخلاقية والسياسية، إريك روسيل، والذي كتب أيضاً سيرة مهمة للسياسي الفرنسي جان مونيه (188 – 1979) مطور فكرة “عصبة الأمم” وقائد “حركة توحيد أوروبا الغربية” خلال خمسينيات وستينيات القرن الـ20، وسيرة الرئيسين الفرنسيين فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، أن “التاريخ تعاد دوماً كتابته، إذ غالباً ما يكتشف المؤرخون وثائق تغير نظرتهم إلى شخصية معينة”، ولعل هذا الاكتشاف هو السبب الذي يجعل بعض الكتّاب والكاتبات يعاودون اليوم كتابة سير تتناول حياة نابليون بونابرت وشارل ديغول أو البابا يوحنا بولس الثاني وغيرهم. ويضيف روسيل أن أدب السيرة قد مر خلال القرن الـ19 بأعوام عجاف بسبب إرث مارك بلوخ وفرناند بروديل ومدرسة “الحوليات” التي اهتمت بتاريخ “البسطاء والمجهولين والمهمشين”، واختلفت نظرتها لمناهج البحث التاريخية من أجل إخراج التاريخ من انغلاقه التخصصي وفتحه على تساؤلات وقضايا جديدة من طريق توسيع دائرة المصادر وعدم الاكتفاء بالوثائق المكتوبة، وتجاوز ذلك إلى العناصر المادية والروايات الشفهية، والاحتكاك بالعلوم الاجتماعية واستيعاب مناهجها وتتبع نتائجها، من خلال الاقتصاد وعلم الاجتماع والجغرافيا وعلم النفس واللسانيات. أما عودة الاهتمام بأبطال التاريخ والشخصيات فترجع، بحسب روسيل، لتسعينيات القرن الماضي عندما وقّع المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (1924 -2014) المهتم بحضارة الغرب في القرون الوسطى كتابه عن سيرة الملك لويس التاسع “القديس لويس”، على رغم انتمائه إلى مدرسة “الحوليات”، والذي نشره لدى دار “غاليمار” عام 1996. وخلال الفترة نفسها أطلقت منشورات “فايار” مجموعتها التي تهتم بسير كبار الشخصيات بإشراف رئيسها التنفيذي كلود دوران، ويقول مدير دار نشر “تالانديه”، كزافييه دو بارتيا، إن أدب السيرة، ذاتية كانت أو غيرية، لا يزال موجوداً، علماً أن صوته ينخفض في بعض الأحيان ليعود بقوة في أحيان أخرى، فهو “جزء من حمض الفرنسيين النووي”، لكن بعد غياب أسماء كتّابه الكبار من أمثال جورج دوبي وجاك لوغوف وإيمانويل لوروا لادوري “تآكل هذا النوع قليلًا”، مضيفاً أن “مدة حياة أي كتاب يعيد كتابة مسرى حياة أحدهم، أطول بكثير من حياة أي نوع أدبي آخر”، ولعل صدور هذه السير في مجموعة “كتب الجيب” التي تجمع ذخائر الكتب في طبعات أثمانها في متناول القراء، تطيل عمر هذا النوع من الأدب، فمجموعة “تكستو” التي تضم 250 سيرة من أصل 850 عنواناً لا تزال تشهد على بيع 5 آلاف نسخة سنوياً من سيرة ونستون تشرشل التي وضعها فرانسوا كيرسودي منذ صدورها عام 2015. ويتابع دو بارتيا أن كثيراً من القراء الفرنسيين وغير الفرنسيين يتذكرون موهبة هنري ترويا وآلان ديكو وأندريه كاستيلو، الذين أعادوا لهذا النوع من الأدب بريقه يوم نجحوا في تحقيق توازن بين الحقيقة التاريخية المستخلصة من درس الوثائق وإعادة ترتيب الأحداث الحياتية للشخصية، في صياغة مفهومة من الباحث والقارئ العادي معاً. يوم أتى النازيون وتقول المسؤولة عن قسم التاريخ في مكتبة باريس في مدينة سانت إتيان، إيزابيل كوريول، إن بعض كتاب السير غالباً ما يلجأون إلى الخيال بغية جعل الشخصية التي يتناولون حياتها أكثر حيوية، فنحن برأيها “في رواية منذ اللحظة التي يروي فيها الكاتب حدثاً، وإن كان تافهاً وليس له أساس تاريخي”، ولدعم وجهة نظرها تستشهد كوريول برائعة فيليب كولان الموسومة “نادل الريتز” والصادرة أخيراً في باريس عن دار “ألبان ميشال”، وتروي قصة فرنسا المحتلة يوم دخلها النازيون عام 1940. تقول الرواية الواقعة على مفترق أدب السيّر والسرد الروائي إن الألمان يوم دخولهم العاصمة الفرنسية فرضوا حظر التجول في كل مكان، باستثناء فندق الـ”ريتز” الكبير، حيث اختلط ضباط الاحتلال المتلهفون لاكتشاف فن العيش الفرنسي بالنخبة الباريسية من أمثال كوكو شانيل وساشا غيتري، ففي هذا الفندق نجح مهاجر نمسوي يهودي يدعى فرانك ماير ويعمل نادلاً داخل حانة الفندق الفخم، في إخفاء يهوديته وكسب تعاطف ضباط الـ”غستابو” الألمان، في رواية تعيد تصوير حقبة مضطربة من تاريخ فرنسا بمهارة ودقة، من خلال مصير هذا الرجل غير المعروف. طائر يصنع عشه الطيني على تمثال الأمير الصغير للفنانة الأرجنتينية أماندا مايور (أ ف ب) ويعتبر كتاب “نادل الريتز” الذي بيعت منه أكثر من 80 ألف نسخة منذ صدوره نهاية أبريل (نيسان) الماضي أفضل مثال على تداخل السير التاريخية بالرواية، فعندما يكتب فيليب كولان عن الجنرال فيليب بيتان وحكومة فيشي أو عن ليون بلوم فهو يقوم بعمل تأريخي دقيق، لكنه عندما يكتب عن فرانك ماير الذي لا نعرف إن كان قد وجد بالفعل، وإن كان قد التقى غوبلز وغيره من الضباط النازيين في فندق الـ “ريتز”، فإن مسرى حياته التي يرويها كولان تنتمي حتماً إلى الأدب الروائي. وفي هذا السياق تتساءل بياتريكس دو لولنوا عن سبب تداخل الكتابة الروائية بوقائع التاريخ في كتابة سيرة شخصية ما، فتشير إلى بعض الفجوات والشكوك والنواقص التي يختار بعض الكتاب سدها باللجوء إلى الخيال، بينما يختار بعضهم الآخر، على ما يقول إيمانويل دو واريسكيل وجنفياف هاروش بوزيناك، كاتبة سيرة مدام دو سيفينيه (فلاماريون – 2024)، الالتزام بمصادره والإشارة إلى شكوكه بدلاً من إطلاق خياله، فكاتب السيرة ملزم بعدم تحريف التاريخ وما عليه سوى العمل على تحسين أسلوبه لخلق التشويق، ولو سمحت الرواية أحياناً بفهم أفضل لحياة الشخصيات البارزة أو غير المعروفة، كحياة هذه اليتيمة الفرنسية أندريه إيمبيرت التي أصبحت طاهية عائلة كينيدي، والتي روت فاليري باتورو سيرتها المدهشة (منشورات لي إيسكال – 2024). منفى “الأمير الصغير” وللحفاظ على التشويق يفضل كتّاب آخرون استكشاف جانب واحد فقط من جوانب الشخصية التي يكتبون سيرتها، “فليس كل شيء مثيراً للاهتمام في حياة أي شخص، وثمة بعض الجوانب الأكثر دينامية من سواها وينبغي التشديد عليها”، على ما يقول جان كلود بيرييه، مؤلف كتاب “سانت إكزوبيري، الأمير الصغير في المنفى” (بلون – 2024). وفي هذه السيرة يشدد بيرييه على الأعوام الأميركية في حياة أنطوان دو سانت إكزوبيري، إذ تعتبر في نظره حاسمة، وتضيف إيزابيل كوريول قائلة إن “المكتبات لا تخصص قسماً خاصاً بأدب السير لأنها موجودة في كل مكان تقريباً، فسيرة والت ديزني تثير في الوقت عينه اهتمام المؤرخين والروائيين والمهتمين بالسينما، وسيِّر الفنانين والملوك والملكات والكتّاب والأبطال موضوعة في كل ركن من أركان المكتبات، وما على القراء سوى الإقبال عليها والارتماء في أحضانها طمعاً في متعة القراءة التي تحدث عنها دانيال بناك، والتي تفتح عيوننا على التنوع، وتزودنا بالقدرة على أن نكون في كل زمان ومكان، وتمدنا بمعرفة عن الأشياء والتواريخ والآخرين بصورة أفضل، وتدفعنا إلى الاستفادة من خبراتهم وعدم تكرار أخطائهم وإبقاء فضولنا متيقظاً”. المزيد عن: أدب السيرة الذاتيةفرانز كافكاالكتب التاريخيةفرانسوا ميترانأنطوان دو سانت إكزوبيري 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post «غوانتانامو»: هل «الإيهام بالغرق» الذي تعرض له مدبر «هجمات سبتمبر» سيخفف من عقوبته؟ next post مهى سلطان تكتب عن: صلاة من أجل الظلام تتوسل الضوء You may also like مهى سلطان تكتب عن: الرسام اللبناني رضوان الشهال... 24 نوفمبر، 2024 فيلمان فرنسيان يخوضان الحياة الفتية بين الضاحية والريف 24 نوفمبر، 2024 مصائد إبراهيم نصرالله تحول الرياح اللاهبة إلى نسائم 23 نوفمبر، 2024 يوري بويدا يوظف البيت الروسي بطلا روائيا لتاريخ... 23 نوفمبر، 2024 اليابانية مييكو كاواكامي تروي أزمة غياب الحب 22 نوفمبر، 2024 المدن الجديدة في مصر… “دنيا بلا ناس” 21 نوفمبر، 2024 البعد العربي بين الأرجنتيني بورخيس والأميركي لوفكرافت 21 نوفمبر، 2024 في يومها العالمي… الفلسفة حائرة متشككة بلا هوية 21 نوفمبر، 2024 الوثائق كنز يزخر بتاريخ الحضارات القديمة 21 نوفمبر، 2024 أنعام كجه جي تواصل رتق جراح العراق في... 21 نوفمبر، 2024