مشهد من "آلام جان دارك" (موقع الفيلم) ثقافة و فنون “آلام جان دارك”… أسطورة واقعية وتراجيدية على الشاشة by admin 7 نوفمبر، 2024 written by admin 7 نوفمبر، 2024 11 كيف تجاوز فيلم كارل تيودور دراير الحدود السينمائية ليقدم معالجة إنسانية ملهمة؟ اندبندنت عربية / إبراهيم العريس باحث وكاتب كان على جان دارك أن تنتظر نهاية القرن الـ20 قبل أن يكون لها فيلم كبير يمجد حياتها وبطولاتها بالصورة التي تستحقها مغامرتها الغريبة، وكان عليها أن تنتظر حتى هذا الزمن الراهن لتجد في الفاتنة ميلا جوفوفيتش ممثلة تقوم بدورها على الصورة التي يحلم بها متابعو أسطورة البطلة الفرنسية الشهيرة. إذ على رغم أن شخصية جان دارك فتنت دائماً الكتاب والموسيقيين والرسامين وغيرهم من الفنانين، وصولاً إلى السينمائيين الذين كرسوا لعذراء أورلينز أكثر من 25 فيلماً أساسياً منذ اختراع فن السينما، وعلى رغم أن إنغريد برغمان وساندرين بونير، قامتا – كل منهما في فيلم – بدور جان دارك، فإن ذاكرة السينما ظلت تحتفظ بصورة ممثلة “الكوميدي فرانسيز” المتقشفة السحنات والقرعاء الشعر ماري فالكونيتي، بصفتها الأكثر ارتباطاً بشخصية البطلة، وأيضاً بفيلم “آلام جان دارك” للدنماركي كارل تيودور دراير بصفته السينمائي الذي عرف كيف يقدم، باكراً ومنذ عام 1928، أفضل وأهم فيلم حققه الفن السابع عن جان دارك. ولئن كان، حتى “جان دارك” لوك بيسون الذي تألقت فيه ميلا جوفوفيتش، عجز عن مضاهاة فيلم المعلم الدنماركي الكبير، فإن ما لا يتعين نسيانه هو أن كبار المخرجين، من روبرتو روسليني إلى سيسيل دي ميل إلى فيكتور فليمنغ، من بعد جورج ميلياس، ومن قبل أوتو بريمنغر ثم، بخاصة، روبير بريسون، وقعوا أفلاماً عن جان دارك. وكانت غالباً ناجحة، بيد أن النجاح الذي حققه – نقدياً بالتحديد، وتاريخياً – فيلم دراير، لم يوازه إلا النجاح الشعبي الساحق الذي حققه فيلم بريسون. ومع هذا شتان ما بين الفيلمين: فإذا كان الثاني استعراضياً فخماً، مملوءاً بالبطولات والمعارك، فإن الأول بسيط هادئ، تراجيدي يكتفي بتصوير يوم واحد من حياة جان دارك هو يوم محاكمتها والحكم عليها. فدراير لم يكن يهمه أن يصور المعارك والنضال، بقدر ما كان يهمه أمر آخر تماماً، عبر عنه يومها بقوله: “لقد كانت نيتي وأنا أحقق فيلم ’جان دارك‘، تكمن عبر إكسسوار الأسطورة وحيثياتها، في اكتشاف الفاجعة الإنسانية الكامنة وراء هالات البطولة، وفي شكل أكثر تحديداً: اكتشاف الصبية التي كانت تدعى جان. كنت أريد أن أقول إن أبطال التاريخ هم أيضاً كائنات إنسانية”. المخرج كارل تيودور دراير (وسائل التواصل) نسخة منقوصة… الحقيقة أن دراير نجح تماماً في مشروعه هذا، إذ إن الفيلم – حتى وإن كانت نسخته الحقيقية فقدت بعد ذلك ولم يعرض، حتى عام 1985، إلا مشوهاً ناقصاً بعد أن عملت به مقصات الرقابة – حين عرض للمرة الأولى نال إعجاب، بل حماسة، كثيرين من كبار المثقفين الفرنسيين من أمثال جان كوكتو وبول موران، والسينمائي لودوكا، الذي جهز الفيلم بعد فقدانه ورعى ما تبقى من نسخه، غير متردد في عرض النسخة المشوهة، منذ عام 1952. ولكن المهم في الأمر هنا هو السؤال: ما الذي أثار شغف المثقفين بهذا الفيلم الصامت المتحدث عن حكاية معروفة ومزدهرة الانتشار؟ في كل بساطة: تقشفه، وكون مخرجه عرف كيف يدخل فيه في صلب موضوعه غير مهتم إلا ببطلته ومعاناتها، في وجه حكامها وجلاديها. وهو من أجل الوصول إلى هذا، عثر على ديكور بسيط في قصر روان، غرب فرنسا، كان في الأصل مقراً لقصر العدل. وكان من مزايا هذا القصر شبهه بمراكز التعذيب أيام محاكم التفتيش، مع إكسسواراته الضرورية: جسر متحرك، وعجلة تعذيب. أما الأسلوب الذي مكن دراير من إيجاد إطار للغته السينمائية فكان الأسلوب السيكولوجي الذي جعله في معظم المشاهد يصور لقطات مكبرة لوجه جان ولوجوه حكامها متواجهين. وفي هذا السياق قد يصح أن نذكر أن دراير الذي استبعد من السيناريو الأصلي كل زينة تخرج عن جوهر الحدث، تعمد – كما أشرنا – أن يركز الأحداث في يوم واحد مصوراً محاكمة جان دارك وموتها. وكانت النتيجة فيلماً ساحراً غريباً يوصل الآلام إلى أقصى درجات تعبيرها ويجبر ممثليه على تقديم أقسى ما عندهم، حتى وإن كانوا صامتين، بخاصة أن الكاميرا، بحسب تعبير الناقد كلود بيكي، عرفت كيف تتسلل إلى عمق أعماق تجاعيد الوجوه، وخلايا الجلد آخذة من ذلك كله تعبيراتها المدهشة. بوستر “آلام جان دارك” (موقع الفيلم) تسلسل الأحداث ولكن كيف يجيء تسلسل الأحداث في هذا الفيلم؟ في كل بساطة، نحن هنا في فرنسا في عام 1431، ولدينا الصبية البسيطة الطيبة جان التي ناضلت منذ البداية رافضة أن يحتل الإنجليز بلدها… لكنها الآن وقعت أسيرة في أيدي البورغينيون، فيما تخلى عنها الملك شارل السابع الذي كانت تناصره تاركاً إياها لمصيرها. وها هم الآن جنود وارويك الإنجليز (ووارويك هو حاكم قصر روان، المعين من السلطة الإنجليزية) يقتادونها لتحاكم أمام محكمة دينية، لكن جان على رغم إيمانها – أو ربما بسببه، ولأنها تعتبر علاقتها الإيمانية علاقة بالله لا بالكنيسة، ترفض الانصياع لجلاديها، وتقابل تعنتهم وعتوهم بتواضع وهدوء يثيران جنونهم وحفيظتهم أكثر وأكثر. وإزاء هذا، ولأن جلاديها يريدون سحقها نفسياً ودينياً وجسدياً، يدفعونها في لحظة قسوة عنيفة إلى التجديف فتجدف. فلا يكون من المطران غوشون، رئيس المحكمة الكنسية إلا أن يأمل بالبدء في تعذيبها جدياً. تتخلى لوهلة عن أفكارها – كما حال غاليليو – لكنها سرعان ما تتراجع عن تخليها في لحظة وعي وكبرياء. وهكذا توقع بنفسها صك موتها، إذ تقاد إلى سوق روان لتحرق حية. في البداية يقف الشعب ضدها معادياً لها، ثم بعد ذلك يكتشف هذا الشعب أن التي أحرقت قديسة حقيقية فيتراجع عن عدائه لها ويثور، غير أن الجنود سرعان ما يطوقون ثورة الشعب، تحت ضغط رجال الدين وبمعاونتهم ويقمعون التظاهرة، فيما تحترق آخر بقايا جثة العذراء المناضلة. … نسخة كاملة منذ عام 1985، إذاً أعيد تركيب النسخة المتوافرة، والمشوهة من فيلم “آلام جان دارك” من جديد وبدأت تعرض عروض عالمية معيدة للأذهان واحداً من أجمل الأفلام وأقواها في تاريخ السينما العالمية. ولكن أيضاً، سينما ذلك الفنان الدنماركي الذي اعتبر، على الدوام، الروح والإنسان صنوين لا يفترقان، وطبع سينماه دائماً بطابع روحي شرطه الأساس إبراز ما هو إنساني داخل الإنسان. ولئن كان وصل إلى ذروة تعبيره عن هذا كله في “آلام جان دارك” الذي يعتبر واحداً من أفضل أفلامه، فإن كارل تيودور دراير ملأ معظم أفلامه الأخرى بنفحة روحية ندر أن تمكن غيره من المخرجين لاحقاً من متابعته فيها، وربما باستثناء مواطنه الشاب لارس فون تراير، الذي أعلن دائماً أنه يدين بكثير للمعلم، إلى درجة أنه بدل اسم عائلته الأصلي ليصبح ذا اسم شبيه به. ومن أفلام كارل دراير الشهيرة “الغول” (1931) و”دييس إيرايا” (1943) و”أوردت” (الكلمة) وأخيراً “جيرترود” الذي كان آخر أفلامه في عام 1964 قبل أن يتوقف عن عطاء دام قرابة نصف قرن، ويخلد إلى هدوء أنهاه موته. ترك كارل تيودور دراير (1889-1968) إرثاً فنياً عميقاً أثر في السينما العالمية، تميز أسلوبه بتصوير تعبيري مبتكر، إذ استخدم الإضاءة والظل لتعكس مشاعر وتوترات الشخصيات بعمق، مركزاً على لقطات قريبة تبرز التعابير الوجهية، كما في فيلم “آلام جان دارك”، مما أضفى على أعماله بعداً نفسياً قوياً. تناول دراير مواضيع روحية ووجودية كالخلاص والإيمان بصياغة فلسفية، وألهم أجيالاً من المخرجين مثل إنغمار برغمان وروبرت بريسون، استلهمت أسلوبه في دمج الروحانية بالعاطفة. ويجسد إرث دراير السينمائي قدرة السينما على التعبير عن القضايا الإنسانية العميقة من خلال التجريب الفني وكسر القواعد التقليدية، مما يجعل تأثيره حاضراً في الفن السينمائي حتى اليوم. المزيد عن: جان داركفيلم آلام جان داركإنغريد برغمانكارل تيودور درايرروبرتو روسليني 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post ليس بالضرورة أن الطلاق يعني نهاية المحبة المتبادلة next post هل تصمد الرواية الرقمية أمام تحديات القراءة؟ You may also like هل تصمد الرواية الرقمية أمام تحديات القراءة؟ 7 نوفمبر، 2024 هل يستحق “جوكر 2” الفشل الجماهيري؟ 7 نوفمبر، 2024 ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أن... 7 نوفمبر، 2024 محمود الزيباوي يكتب عن: أحصنة برونزية من شبه... 6 نوفمبر، 2024 باسم خندقجي الأسير يحطم المرايا في رواية “سادن... 6 نوفمبر، 2024 “فريدريك أمير هومبورغ”… على خطى سقراط في الفن... 5 نوفمبر، 2024 رواية عُمانية عن لعنة الخوف الذي يأكل الأرواح 5 نوفمبر، 2024 كمال داوود… أديب الحوريات المنفي “بقوة الظروف” 5 نوفمبر، 2024 هل يخطط أكبر سينمائي في العالم لمواصلة الإبداع؟ 5 نوفمبر، 2024 محمد الأشعري عنوان لجيل “الصدمة والنسيان” 3 نوفمبر، 2024