النوبة وأسرار الماضي والحاضر (صفحة النوبة - فيسبوك) ثقافة و فنون “آشا، الجعران والقمر” تسترجع منسيات الأساطير النوبية by admin 16 فبراير، 2025 written by admin 16 فبراير، 2025 36 سمر نور تطرح أسئلة وجودية حول المأساة التاريخية والهوية والمصير اندبندنت عربية / لنا عبد الرحمن منذ الصفحات الأولى، تستحضر سمر نور في رواية “آشا، الجعران والقمر” الصادرة عن دار ديوان الحكي الشفهي المتوارث في الثقافة النوبية. تبدأ الرواية بعبارة: “حكاية… حكاية… من الله”، فيأتي الرد: “خير… خير من الله”، مما يرسخ أن ما يروى ليس مجرد سرد خيالي، بل هو امتداد لتراث جمعي تتوارثه الأجيال. يتمحور السرد حول قرية “الشباك” النوبية، التي تواجه لعنة غامضة، تكمن في موت الأولاد الذكور منذ سنوات، مما يهدد مستقبل القرية بالفناء. تتوالى الأزمات، مع فقد نوري حكيم القرية سبعة من أبنائه، فيقرر الصعود إلى الجبل برفقة زوجته فاتي وعبده إسحاق وزوجته دارية وصغيريهما سكينة وجمال، طلباً للعزلة وانتظاراً للنهاية. وهناك تحدث معجزة ولادة آشا داخل مغارة الجعارين، في لحظة حافلة بالرمزية وتتجاوز حدود التخييل، فتتلاقى الحياة والموت، الخصب والجفاف، اللعنة والخلاص. لنقرأ: “صدمة نوري بعد موت أولاده الشباب واحداً بعد الآخر بالمرض أو المجاعة أو الحرب، دفعته إلى اليأس، فقرر صعود الجبل، وانتظار الموت في المغارة. استكان نوري إلى فاتي، احتضنها كطفلة وربت على ظهرها كأنه يهننها، بكت بحرقة سنوات النضوب والحرب والموت، وكانت المغارة الصغيرة مفتوحة على السماء، ولم يعشش على مدخلها اليمام، وكان الجبل ساكناً كموت أزلي، لكن نوري قرر أن يهب الصخر حياة جديدة، بدت الفكرة كأنها إلهام أو رؤية، حين غرس بذرة طفلته في رحم فاتي، الذي لم تسر فيه الدماء منذ 11 عاماً”. التاريخ إطار للحكاية الرواية النوبية (دار ديوان) يحضر التاريخ في الرواية ليس كخلفية زمنية، بل هو قوة دافعة للأحداث، يعكس التحولات التي عصفت بالمنطقة عبر العصور، بدءاً من اجتياح المماليك، مروراً بالاستعمار الفرنسي، وصولاً إلى صراعات القوى المحلية. تسجل الرواية المعاناة التي لحقت بالنوبة، نتيجة الحروب والمجاعات، كما يبرز ذلك في حديث نوري عن الفاقة التي ضربت القرية بعد تدمير المماليك لها: “مر المماليك الهاربون من مذبحة محمد علي، ودمروا كل شيء، ومن بعدهم جنود محمد علي المطاردين لهم أجهزوا علينا، واستمرت المجاعة والفاقة لأشهر طويلة”. التاريخ في النص، يعكس مصير الشخصيات، فالرجال الذين بقوا في القرية إما هلكوا بالحروب، أو غادروا، مما يجبر النساء على مواجهة مصير جديد كـ”ملكات محاربات”، يتحملن مسؤولية إعادة بناء القرية. هنا، تتجلى الرؤية النسوية في الرواية، إذ يعاد تشكيل دور المرأة بعيداً من الصورة التقليدية، وتصبح المرأة مركز الحدث، ومحور البقاء والحياة. الأسطورة والواقع تشكل الأسطورة رافداً أساساً في السرد وبناء الأحداث، تتداخل مع الواقع، لتفسير الماضي والحاضر، وإضفاء عمق رمزي على النبؤات. تظهر الأسطورة بوضوح في قصة الجعران والقمر، التي تحكى في ليالي القرية، لنقرأ: “كان القمر والشمس معاً في السماء، يطلان على البشر طوال اليوم، فلم يعرفوا الليل من النهار. وكانت الخنفساء مغرمة بالقمر، تحلم بالصعود إلى سمائه، لكنه ماكر، فوعدها بالزواج شرط أن تجمع كل فضلات البشر، ثم كل آثامهم، ثم أن تدفع الشمس بعيداً منه. وبعدما فعلت كل ذلك، تركها وحيدة، ليبقى هو سيد السماء”. الروائية سمر نور (صفحة الكاتبة – فيسبوك) تحمل هذه الأسطورة دلالات عدة، تعكس الصراع الأبدي بين الطموح والقدر، بين الخداع والتضحية، وتعكس مصير آشا التي تولد في عالم تسيره التقاليد الصارمة، وتسعى إلى إيجاد مكانها فيه، يرمز الجعران إلى البقاء والتكيف، على رغم أنه يعتبر في الثقافة النوبية نذير شؤم، يتحول في الرواية إلى رمز للحياة الجديدة والأمل، إذ ترتبط ولادة آشا بوجود الجعارين في المغارة، تماماً كما تكافح آشا من أجل الدفاع عن وجودها واختياراتها، منذ لحظة ولادتها في ظروف مستحيلة، بأن تولد من امرأة عاقر وأب عجوز، وكأنها جاءت لتكسر اللعنة أو لتعيد تدويرها من جديد، ثم ارتباطها المباشر بالأسطورة، إذ يتكرر ذكر الجعران كتميمة ولادتها، وكأنها منذ البداية محكومة بقدر غامض. هكذا تتحول الأسطورة في النص إلى مرآة عاكسة للذات الإنسانية، تعكس قلقها وصراعاتها، وتعيد تعريف الحدود بين الحلم والحقيقة، بين المادي والميتافيزيقي. لغة الإيحاء والتأويل اعتمدت الكاتبة صوت الراوي العليم، مما منحها مساحة واسعة لتوظيف الرموز بذكاء، لتكثيف المعاني، وتوسيع أفق التأويل. أحد أبرز الرموز هو المغارة التي تمثل مكان الميلاد والموت، فهي المساحة التي تبدأ فيها حكاية آشا، وتنتهي إليها، وهي تحمل في أحشائها حياة جديدة، تعيد إنتاج اللعنة والميلاد معاً، وكأن الرواية تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، وأن دوائر القدر لا تنتهي، لكنها تمنح الفرصة لحياة جديدة. يظهر القمر كرمز للقدر الغامض، تراقبه الشخصيات لكنه يظل بعيد المنال، بينما الجعران يمثل عذابات الأرض والنجاة في آن واحد. كذلك، يأتي رمز النهر، الذي يفصل بين العوالم، كمرآة للمجهول والمصير الحتمي، تجري في عمق مياهه الحكايات والأساطير القديمة والأهوال الآنية، ويتحول إلى عنصر محوري في تحولات القصة ونهايتها. تقدم الكاتبة شخصيات الرواية بعمق نفسي واضح، تحمل كل شخصية صراعها الداخلي الكامن بين حتمية القدر، والرغبة في التمرد. تمثل آشا، الشخصية المحورية في الرواية، تناقضات الحياة والموت، الحتمية والتغيير، التقاليد والتمرد. ميلادها ذاته يحمل طابعاً أسطورياً، منذ لحظة ولادتها، يحيط بها الغموض، لنقرأ: “حين وصل أهالي القرية إلى مدخل المغارة، كانوا ينتظرون رائحة الموت، إلا أن رائحة المسك كانت متغلغلة في مسام الهواء الحار الثقيل، وكأن حياة جديدة تبزغ في الأفق”، مما يعكس ثنائية الحياة والموت المتلازمة في مسيرتها. تواجه آشا صراعات متعددة، فهي تحاول فهم مكانها في عالم تسيطر عليه التقاليد والأساطير والنبؤات، وبينما تعيش في بيئة ذكورية، يختفي منها الذكور لأسباب غامضة، نجدها تسعى إلى اكتشاف ذاتها بعيداً من القيود المفروضة عليها. علاقتها بوالدها نوري عاطفية للغاية، لكنها في الوقت نفسه تمثل قيداً عليها، يعاملها كـ”ملكة”، لا يمكن أن يقترب منها أحد. هذه العلاقة الأبوية المعقدة تجعلها في حالة بحث عن الاستقلال، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع الانفصال عن جذورها. أما نوري، والدها الحكيم فإنه يقف بين إرث الماضي ومتطلبات الحاضر، يواجه تحدي الزمن وحتمية التغيير، خصوصاً بعد وصول كرم باش، وانجذاب آشا له. هذا الغريب القادم من خارج عالمها، يدخل إلى القرية، ليكسر توازنها، ويفتح الباب أمام احتمالات جديدة. يتكلم لهجة مختلفة، لديه ملامح غير مألوفة، وأحلام تبدو بعيدة من واقعها. يحمل إرثاً عثمانياً، بوسني الأصل، لكنه ينتمي أيضاً إلى الثقافة النوبية من جهة والدته، هذا الانتماء المزدوج يجعله في حالة انفصال دائم، فهو ليس من هنا ولا من هناك. منذ لحظة ظهوره، يكون محاطاً بالغموض، يصل إلى القرية فاقداً للوعي، بعد أن تجرفه مياه النيل خلال الفيضان، وكأن مجيئه كتب له منذ البداية أن يكون جزءاً من مصير آشا. هناك شخصية مهمة أخرى، تتمثل في جمال العبد الذي أحب آشا بصمت، ويمكنه أن يفديها بأي شيء، لكنه لا يجرؤ على البوح بحبه، جمال يجسد مفارقة الحب والقيود الاجتماعية، إنه الجانب الأكثر واقعية في الرواية، فهو العبد الذي نشأ في كنف نوري، يعمل إلى جانبه، لكنه يدرك تماماً أنه لا يملك حق الحلم أو الحب أو التمرد. منذ البداية، يحب آشا، لكنه لا يستطيع الإفصاح عن ذلك، ينتمي جمال إلى فئة المقهورين الذين يعيشون في الظل، يتألمون بصمت، ويضحون من دون أن يطالبوا بأي مقابل. نرى هذا بوضوح في مشاهد كثيرة، منها عندما يساعد آشا في جمع الجعارين من دون أن يشتكي، أو عندما يراقبها بصمت وهي تنجذب إلى كرم باش، مدركاً أن مصيره الفناء في هذه الحكاية. مثلث التناقضات بين هذين العالمين، تجد آشا نفسها ممزقة بين الحاضر والمستقبل، بين الانتماء والحرية، بين الحلم والواقع. وإذا كان كرم باش يمثل الغريب الغامض الذي يقتحم حياة آشا، فإن جمال يمثل الثبات والاحتواء. لكنها، مثل القمر، تنجذب إلى البعيد، وتغفل عن القريب. علاقة آشا بجمال أشبه بعلاقة الجعران بالأرض، فهو في حياتها، لكنه غير مرئي بالنسبة إليها، من هنا تمثل الشخصيات الثلاث مثلثاً من التناقضات، آشا، هي الرمز الأنثوي للصراع بين التقاليد والتحرر، تحمل إرث القرية، وفي الوقت نفسه تقع في حب غريب قادم من بعيد، وتصر على الزواج منه. كرم باش، الغريب الذي يجلب الأمل والاضطراب معاً، لكنه يحمل في داخله طموحاً متأججاً بالزعامة، ويريد أن يرث مكان نوري بعد مصاهرته. أما جمال، المحب الصامت، والشاهد على كل ما يحدث، لا يملك ترف الاختيار، لكنه يحمل في داخله صدقاً وإخلاصاً لنوري وابنته آشا. تكشف الرواية من خلال هذه الشخصيات الثلاث عن عمق المأساة الإنسانية، إذ يظل البحث عن الحرية والحب مرهوناً بتعقيدات القدر، ويبقى السؤال: هل نحن محكومون بما كتب علينا، أم أن بإمكاننا كسر اللعنة؟ المزيد عن: روايةروائية مصريةالنوبةالسردالأساطيرالهويةالمأساة التاريخيةالمصيرالذاكرة 0 comment 0 FacebookTwitterPinterestEmail admin previous post سهرة رعب إنجليزية تتجسد في فيلم سعودي next post “رقصة اليعسوب” تستعيد اشكالات “العشرية السوداء” You may also like “كونتيننتال 25” يواجه الأنظمة المعاصرة في برلين 23 فبراير، 2025 ما سر حضور الفيلسوف كيركغارد في الثقافة العربية؟ 23 فبراير، 2025 مهى سلطان تكتب عن: الرسام هنري ماتيس يعود... 23 فبراير، 2025 عندما دخلت “أفلام التحريك” عالم السياسة واللؤم الاجتماعي 23 فبراير، 2025 بول شاوول يكتب عن: “كتابة الأنا” بين الأدب... 22 فبراير، 2025 محمد أبي سمرا يكتب عن.. عباس بيضون: العالم... 22 فبراير، 2025 فادي أبو خليل الشاعر الذي قرّر أن يختفي 22 فبراير، 2025 قضية غزة تثير سجالا سياسيا في مهرجان برلين 22 فبراير، 2025 في الجزائر أم واحدة ولغتان عربية وأمازيغية تتواجهان 22 فبراير، 2025 كيف نحافظ على اللغة الأم في عصر العولمة... 22 فبراير، 2025